المبحث الأول: تعريف التحكيم و طبيعته القانونية
لم تضع قوانين المرافعات ولا قوانين التحكيم تعريفا موحدا لنظام التحكيم، واكتفت بتقرير مشروعيته كطريق بديل لحل النزاعات، وحددت شروط الاتفاق عليه وقواعد الإجراءات، وأشكال الأحكام وطرق الطعن فيها وتنفيذها.
كما اختلفت الآراء الفقهية في تحديد الطبيعة القانونية للتحكيم ، فهناك من اعتبره ذو طبيعة تعاقدية، وآخرون يرون أنه ذو طبيعة قضائية، وهناك من جمع ما بين الرأيين واعتبره ذو طبيعة مختلطة، وهناك من يرى بأنه ذو طبيعة مستقلة.( )
المطلب الأول: تعريف التحكيم
وفيه نتطرق إلى تعريف التحكيم لغة واصطلاحا على النحو التالي:
الفرع الأول: التحكيم لغة
ان لفظ التحكيم في اللغة العربية هو مصدر الفعل حكم بتشديد الكاف، أي حكّمت فلانا في مالي تحكيما، أي فوضت إليه الحكم فيه.
والمحكّم بتشديد الكاف ، هو الشخص الذي يسند إليه الحكم في الشيء، والحكَم بفتح الحاء والكاف بنفس المعنى أي من يختار الفصل بين المتنازعين ، و الحكم اسم من أسماء الله تعالى.
وقد تأثرت التعريفات الشرعية بذلك التحديد اللغوي ، فقد قيل بأن التحكيم هو اختيار الشخص لغيره حكمًا ، فيكون الحكَم فيما بين الخصمين كالقاضي في حق كافة الناس ( ).
الفرع الثاني:التحكيم اصطلاحا
لم تضع غالبية الأنظمة القانونية تعريفا للتحكيم، ومنها المشرع الجزائري و اكتفت بالإشارة إلى عناصر التحكيم ، مما فتح الباب أمام اجتهادات الفقه .
فقد عرّفه بعض الفقه بأنه الاتفاق على طرح النزاع على شخص أو أشخاص معينين ليفصلوا فيه دون المحاكم المختصة ( ).
وقد عرفه البعض أيضا بأنه عقد يتفق الأطراف بمقتضاه على طرح النزاع على محكم شخص، أو أشخاص يختارونهم للفصل في النزاع دون المحكمة المختصة( ).
و ذهب البعض الآخر إلى أنه قضاء خاص يتولاه أفراد مزودين بولاية الفصل في المنازعات وذلك خروجا على الأصل العام و هو أن أداء العدالة وظيفة من وظائف الدولة تقوم بها سلطتها القضائية( ).
ومما سبق يمكن تعريف التحكيم بأنه نظام قضائي خاص، يختار فيه الأطراف بإرادتهم قضاتهم و يخولونهم بمقتضى اتفاق مكتوب مهمة الفصل في المنازعات التي نشأت، أو قد تنشأ بينهم بخصوص علاقاتهم العقدية أو غير العقدية، و فق المبادئ وأحكام القانون والعدالة، بإصدار حكم ملزم يفصل في النزاع، يخضع لرقابة القاضي.
المطلب الثاني: الطبيعة القانونية للتحكيم
يتكون التحكيم من عمليتين، الأولى هي اتفاق يبرمه طرفا النزاع، والثانية هي الحكم الصادر عن هيئة التحكيم، فهذه التركيبة الوظيفية خلفت آراء متباينة حول طبيعته و سنحاول استعراض أهمها.
الفرع الأول: الطبيعة الاتفاقية أو العقدية للتحكيم
يستند أنصار هذا الاتجاه على مبدأ سلطان الإرادة ، حيث يرون أن التحكيم ذو طبيعة تعاقدية يستمد المحكم فيه ولايته من إرادة الخصوم، ويعتبر ذلك طريقا استثنائيا لفض النزاعات، وخروجا عن الأصل في عرض المنازعات على القضاء ، فأساسه هو اتفاق الأطراف، ومن هذا الأخير يستمد حكم التحكيم قوته التنفيذية ، فهذا الحكم و الاتفاق كل لا يتجزأ، فالحكم لا يكون إلا نتيجة وانعكاسا للاتفاق( ).
ومن هنا ظهرت النظرية العقدية التي ترى بأن التحكيم ذو طبيعة تعاقدية لأنه يهدف إلى تحقيق مصالح خاصة ، عكس النظام القضائي الذي يهدف إلى تحقيق مصالح عامة كما أن مصدر سلطة هيئة التحكيم هو إرادة الخصوم ورضائهم بالتحكيم، وما يصدر عنه من أحكام .
والأطراف في التحكيم هم الذين يحددون الإجراءات الواجبة الإتباع، والقانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع، عكس ما هو معمول به أمام قضاء الدولة، كما أن المحكم ليس بالضرورة أن يكون منتمي للهيئة القضائية في الدولة.
ويضيف أصحاب هذا الرأي أن تمتع حكم التحكيم بالحجية ، يمليه اتفاق ضمني بين أطراف الاتفاق على التحكيم، وعلى احترام و تنفيذ ما يقضي به المحكم.
وجوهر النظرية العقدية لطبيعة التحكيم يتأسس على أن التحكيم هو من عمل الأطراف فهو تراضي أو اتفاقي، أو عقد ينشأ عنه نظام التحكيم.
إلا أن جانب من الفقه يرى بأنه يؤخذ على هذه النظرية أنها أبرزت دور مبدأ سلطان الإرادة في الاتفاق على التحكيم وأهملت حقيقة وظيفة المحكم القضائية.
تقوم هذه النظرية على طبيعة الوظيفة التي يقوم بها المحكم هي في ذاتها التي يقوم بها القاضي، وبالتالي فإن عمله يكون عملا قضائيا، ويتم نظر النزاع أمامه على ذات المراحل التي تتم أمام القضاء.
والتحكيم يقوم بالوظيفة ذاتها التي يقوم بها قضاء الدولة، وهي حسم النزاع، وتحقيق العدالة بين المتنازعين، فإنه يكتسب بالضرورة الطبيعة القضائية، ومن ثم فنظر النزاع أمام المحكم يمر بذات الإجراءات التي يمر بها أمام القاضي، وينتهي بحكم مماثل لحكم القاضي، سواء فيما يتعلق بالطعن فيه، أو فيما يتعلق بقابليته للتنفيذ. ( )
الفرع الثاني : الطبيعة القضائية للتحكيم
أنصار هذه النظرية نظروا إلى التحكيم من زاوية أنه قضاء ملزم للخصوم، متى اتفقوا عليه وأنه يحل محل قضاء الدولة الإجباري، وأن عمل المحكم ماهو إلا شكل من أشكال ممارسة العدالة التي تمارسها الدولة، فإذا رخصت للأطراف اللجوء إلى التحكيم، فإن مهمة المحكم تنحصر في ممارسة وظيفة قانونية، وبالتالي فعمل المحكم عمل قضائي لتوفر مقومات العمل القضائي وهي الادعاء والمنازعة، والشخص الذي يخوله القانون حسم النزاع( ).
كما أن حكم المحكمين يعتبر عملا قضائيا بالمعنى الدقيق من حيث الشكل والموضوع، فمن حيث الشكل فإنه يصدر في شكل حكم قضائي وبنفس إجراءات إصدار الأحكام القضائية، و من ناحية الموضوع فالحكم غالبا ما يطبق قواعد القانون الموضوعي ويفصل في نزاع حقيقي بين الخصوم و يلتزم باحترام حقوق الدفاع. ( )
ويؤخذ على أصحاب هذه النظرية أنهم ركزوا على عمل المحكم، وأهملوا مصدر سلطة هذا الأخير التي يستمدها من اتفاق التحكيم. ( )
الفرع الثالث: الطبيعة المركبة للتحكيم
اتخذ أنصار هذه النظرية موقفا وسطا بين النظريتين السابقتين، فهم يوازنون بين الطبيعة التعاقدية والطبيعة القضائية للتحكيم، فيرون أن له طبيعة مركبة، أو مزدوجة فيقولون أن الطبيعة المركبة للتحكيم تبرز وجها تعاقديا بسبب اتفاق التحكيم الذي ينشئه، وتبرز وجها قضائيا بسبب حكم التحكيم الذي يفصل في النزاع ( ).
هذه النظرية تسعى إلى التوفيق بين النظريتين السابقتين العقدية والقضائية، لتفادي الانتقادات الموجهة للنظريتين، حيث تجعل التحكيم يحتل موقعا وسطا بين الطبيعة التعاقدية والطبيعة القضائية وأن له طابعا مرحليا، فهو يبدأ تعاقديا من خلال اتفاق الأطراف على اللجوء إلى التحكيم دون التوجه للقضاء، وينتهي قضائيا بصدور حكم التحكيم، ثم يأمر بتنفيذه من قضاء الدولة. ( )
الطبيعة المختلطة للتحكيم ، تكرس فكرة العقد باعتبارها تجسيدا لمبدأ سلطان الإرادة من ناحية، وتؤكد فكرة القضاء عن طريق حكم التحكيم من ناحية ثانية، فهو نظام يمر بمراحل متعددة تبرز في كل منها إما الطبيعة التعاقدية أو القضائية ، فهو في أوله اتفاق، وفي وسطه إجراء و في آخره حكم .
وانتقدت هذه النظرية، على أنه يترتب على قبولها إهدار القيمة القانونية لحكم التحكيم الذي لا يصدر الأمر بتنفيذه إلا عن طريق القضاء، وهذا يتنافى مع قصد المشرع من إقرار نظام التحكيم.( )
الفرع الرابع: نظرية استقلال التحكيم
يرى جانب من الفقه أن التحكيم وسيلة قانونية متميزة لفض المنازعات و نظام مستقل قائم بذاته، وذلك لاعتبارات عديدة، منها أن العقد ليس هو جوهر التحكيم و ليس إلا أداة خاصة تحقق الهدف الذي يسعى إليه الخصوم( ).
ونادى بعض الفقه باستقلال نظام التحكيم من خلال التأكيد على طبيعته الخاصة، وذاتيته المستقلة التي تختلف عن العقود و عن أحكام القضاء ( ).
كما ذهب البعض إلى القول بأن التحكيم ليس نوعا من القضاء و إنما هو نظام مختلف في وظيفته و طبيعته و بنيانه الداخلي عن القضاء وهو بذلك يمشي موازيا له.