مقدمة
نظام التحكيم نظام قديم لفض النزاعات وجد قبل القضاء،بسبب تأخر ظهور فكرة الدولة بمختلف سلطاتها، إلا أنه لم يكن بشكله وتنظيمه الحالي، حيث شهد التحكيم عدة تطورات نتيجة زيادة الاهتمام به كوسيلة بديلة لتسوية المنازعات، ولقد لعبت المنظمات الدولية دورا كبيرا في التحكيم حيث سارعت إلى تنظيمه من خلال إبرام المعاهدات و الاتفاقيات الدولية التي تهتم بمختلف جوانب التحكيم، ولم تكتف بهذا الحد فقد تم وضع قانون نموذجي، و إنشاء عدة مراكز للتحكيم 1.[1]
وقد عرف النظام القانوني الجزائري مرحلتين متباينتين من التحكيم التجاري الدولي، ففي المرحلة الأولى التي تميزت بإنكاره لهذا النظام تبريرا بأولوية السيادة لم يتخذ المشرع الجزائري موقفا واضحا ولا محددا في شأن أولوية القانون والقضاء الوطنيين على حساب التحكيم، إذ نظريا و تشريعيا ، خاصة من خلال المادة (442 /3) من قانون الإجراءات المدنية الملغى( )، يظهر رفض التحكيم التجاري الدولي، لكن تطبيقيا وواقعيا أظهرت الجزائر موقفا آخر إثر لجوئها إلى التحكيم التجاري الدولي خاصة الاتفاقي في العديد من المناسبات، بدليل احتلالها المرتبة الثالثة بين الدول العربية في رجوعها إلى هذه الوسيلة بعد كل من مصر والعربية السعودية، وهذا تناقض واضح بين النصوص القانونية من جهة و الواقع التطبيقي (اتفاق التعاون بين الجزائر و فرنسا في 26/06/1963 والتي نصت مادتها الثالثة على جعل النظر في النزاعات الناشئة بين الدولتين من اختصاص محكمة التحكيم الدولية، وأن الحكم التحكيمي نافذ دون حاجة للإجراءات التنفيذية وهذا في الإقليمين الجزائري و الفرنسي) 2.[2]
إلا أن النظام الذي أتى به اتفاق 1983 الفرنسي والجزائري والخاص بالتحكيم (والذي جاء مزيجا بين قواعد الغرفة التجارية الدولية و قواعد نظام التحكيم للجنة الأمم المتحدة (CNUDCI)) ، شكل منعرجا حاسما لمواقف الجزائر السابقة له، مما جعلنا نستنتج تذبذب النظام القانوني الجزائري في تلك المرحلة في موقفه من التحكيم التجاري الدولي.
أما المرحلة الثانية التي شهدت إصلاحات اقتصادية عميقة، فيمكن القول بأن المشرع الجزائري قد تراجع عن موقفه تجاه التحكيم التجاري الدولي و ذلك بالانضمام إلى اتفاقية نيويورك المتضمنة الاعتراف وتنفيذ الأحكام التحكيمية والصادرة بتاريخ 10 جوان 1958 وذلك سنة1988( )وإصداره للمرسوم التشريعي (93/09). ( )
المرسوم السالف الذكر عدل وتمم الأمر رقم (66/154) المؤرخ في 08/07/1966، المتضمن قانون الإجراءات المدنية الملغى، كما قامت الجزائر بإبرام اتفاقيات ثنائية خاصة بتشجيع الاستثمارات و الانضمام إلى اتفاقيات متعددة الأطراف .
إلا أن هذا التحول لم يخل من النقائص و السلبيات ، نتيجة عدم دقة الصياغة ووجود فراغات قانونية أدت إلى القول بقصور هذا القانون عن استجابته لكل الإشكاليات التي يمكن أن تطرح أمام المحكم .
والنقائص السالفة الذكر تعكس لا محالة الظروف التي تم فيها إصدار هذا المرسوم، لكونه صدر في مرحلة انتقالية تميزت بالسرعة وعدم الاستقرار( ).
وفي إطار الإصلاحات القانونية، صدر القانون رقم (08/09) المتضمن قانون الإجراءات المدنية والإدارية، الذي دخل حيز التنفيذ في 25أفريل 2009 ( ) ، الذي ألغى الأمر (66/154) السالف الذكر و خصص الباب الثاني من الكتاب الخامس للتحكيم.
من خلال هذه المحاضرة سنتطرق إلى تطور مفهوم التحكيم من خلال تعريفه و تحديد طبيعته القانونية التي لا تزال محل اختلاف، وكذا أنواع التحكيم ومزايا ومساوئ هذا الأخير.