جامعة حمة لخضر الوادي

قسم اللغة العربية وآدابها

                              كلية الآداب واللغات                  

 

 

 

مستطيل مستدير الزوايا: محاضرات في مادة :
قضايا النص الشعري الحديث والمعاصر

 

 

 

 

 

 

 

طلبة السنة الثالثة:

دراسات أدبية

 

                               الأستاذة : بوجلخة فضيلة

 

 

 

السنة الجامعية 2020/2021

 

 

المحاضرة الأولى: الثورة الجزائرية في الشعر العربي الحديث والمعاصر

لقد اندلعت الثورة التحريرية الكبرى في نوفمبر 1954 بعد استعمار دام طويلا, وقد ظن الثوار أن المعركة ستكون طويلة ومريرة بسبب نوع الاستيطان, ففرنسا كانت تنوي الاستقرار إلى الأبد في الجزائر, والمواطن الجزائري هو مواطن فرنسي يحمل الجنسية الفرنسية دون أن يتمتع بحقوقها, وقد سيطر المستعمر على الأراضي الزراعية الخصبة بعد إصدار قانون 1873, وفرض لغته الفرنسية على الجزائريين , وقضى بذلك على الشخصية الوطنية الجزائرية, وهذا كله صعب  المهمة على الثوار الجزائريين, وقد جندت فرنسا كل إمكانياتها وإمكانيات حلفائها للقضاء على الثورة التحريرية, وهذا ما يفسر إيقاف الثورة في تونس والمغرب للتفرغ لمواجهة الثورة الجزائرية.

وقد انطلقت الثورة التحريرية الكبرى في شكل هجمات مكثفة على معاقل العدو من مراكز الجيش ودرك وإدارة استعمارية, واتخذوا من الجبال والسهول الفلاحية معاقل لهم ,وهذا ما كتب للثورة النجاح والاستمرارية, وقد دفعت الجزائر ثمن الحرية مليون ونصف من الشهداء, ودمرت القرى ونزح الآلاف لتونس والمغرب.

وقد وقفت الشعوب العربية مساندة للثورة الجزائرية ونضالها فقدمت لها الدعم السياسي والمادي, كما فتحت مكاتب لجبهة التحرير الوطني في سائر العواصم العربية وشكلت لجان تجمع الدعم للثورة.

والتف المواطنون العرب جول الثورة الجزائرية, وكان للكلمة دور كبير جدا, حيث نثر الكتاب والشعراء والصحفيون حبرهم يدعمون الثورة, وخصصت بعض المجلات صفحات ثابتة للثورة الجزائرية , كما فتحت الإذاعات العربية أركان ثابتة تحمل عنوان (الثورة الجزائرية).

إن الصحافة العربية الأدبية منها والسياسية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي كانت حافلة بالمقالات والأقاصيص والمسرحيات والقصائد عن الجزائر , ففي ميدان القصة هناك قصة (ألم)لعبد الغفور جبار العزاوي التي نشرت في جريدة (الفجر الجديد)البغدادية سنة1961

كما كتبت مقالات كثيرة وخطب مسجدية تدعو كلها لمساندة الثورة الجزائرية وقد جمع عثمان سعدي في موسوعة بعنوان (الثورة الجزائرية في الشعر العربي)حوالي 255 قصيدة قالها 107 من الشعراء.

ونجد أهم شعر عربي نظم في الثورة الجزائرية هي قصائد أنشدها شعراء عراقيون, حيث واكبوا الثورة الجزائرية من بدايتها حتى الاستقلال, فالشاعر العراقي هو من أكثر الشعراء التزاما بالحركة السياسية والاجتماعية.

ـــ تنوع أشكال قصائد شعراء الثورة الجزائرية بالعراق:

تنوع شكل القصيدة العراقية التي تحدثت عن الثورة الجزائرية, وهي تعبر عن الحركة الشعرية العربية التي عرفها تاريخ الأدب العربي بعد الحرب العالمية الثانية, وهي بحق أهم تحول مر على الشعر العربي بعد التحول الذي عرفه في نهاية العصر الأموي وبداية العصر العباسي.

إن الانفتاح على الآداب الغربية نهاية القرن19 وبداية القرن 20, دعا الشعراء إلى تطوير وتغيير الشعر من الجمود, وجعله مواكبا للعصر بتنويع أشكاله الثقافية و الفنية, وهي تهدف إلى التخلص من القافية في القصيدة العربية, وما تفرضه على الشاعر من رتابة واصطناع مفتعل خاصة بالنسبة للشعراء غير المتمكنين في اللغة, لأن الالتزام بالقافية الواحدة يتوجب على  الشاعر التمكن من اللغة ومن مرادفات القاموس العربي حتى يتمكن من إنتاج شعر عمودي أصيلواستجاب لهذه الدعوة في العقد الأول من القرن20عبد الرحمان شكري , وجميل صدقي الزهاوي , وأحمد زكي أبو شادي , وغيرهم فنظموا قصائد  تعتمد على الوزن دون القافية الموحدة , مثل قصيدة عبد الرحمان شكري(نابليون والساحر)وقصيدة توفيق البكري(ذات القوافي).

إن هذه المحاولات الشعرية التجديدية التي استجاب لها الشعراء كانت في إطار الشعر العمودي, وكان الهدف تطوير الشعر العمودي وتحريره من بعض القيود التي تعيق نموه وتعبيره عن مقتضيات عصره, وكلها محاولات تشبه محاولات الأندلسيين في تغيير شكل القصيدة فظهرت الموشحات والأزجال .

ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية برز على الساحة عدد من الشعراء الشبان ,اطلعوا على الشعر الغربي (الفرنسي والانجليزي)ودعوا إلى إحداث ثورة في التركيب الشعري للقصيدة العربية, وإخراجها من القالب(الغنائي العمودي), وإدخالها في إطار (درامي تأملي)بدلا من الإطار الحماسي الغنائي.

لقد تأثر هؤلاء الشبان العرب بحركة مماثلة لحركتهم في فرنسا بنهاية القرن الماضي, ودعت إلى التخلص من قيود الوزن والقافية, والشطرين المتقابلين, والمقاطع المتساوية , فالشعراء دعاة الشعر الحر تأثروا بالحركة الأوروبية, وأول دعاة الشعر الحر من العراق, وهناك قصائد كثيرة تتغنى بالثورة الجزائرية من الشعر الحر, لأن الثورة الجزائرية بدأت أحداثها في الخمسينيات, وفي هذا العقد بدأت تتبلور ملامح قصيدة الشعر الحر, ووضع فيه الرواد أصولا ثابتة, ومن هؤلاء الشعراء نذكر بدر شاكر السياب ــ أبو الشعر الحرــ له 5قصائد, ونازك الملائكة لها قصيدة, وعبد  الوهاب البياتي 4قصائد, لذلك كانت بداية الشعر الحر من العراق سنة1947عند السياب ونازك, تقول نازك الملائكة(ومن العراق بل ومن بغداد نفسها زحفت هذه الحركة, وامتدت حتى غمرت الوطن العربي كله ... وكانت أول قصيدة حرة الوزن تنشر قصيدتي بعنوان(الكوليرا)), وقد وقعت مشاحنات كبيرة بين مؤيد للشعر الحر ومعارض له, وفي هذا الجو نظمت قصائد تتناول القضية الجزائرية, فكانت زاخرة بالالتزام السياسي, والذي يقول فيه بول إيلوار(إن الموقف الشعري مهما بدا عليه أنه متقدم فهو موقف خاطئ إذا لم يتممه الموقف السياسي).

لقد تنوعت أشكال القصائد التي نظمت في الثورة الجزائرية منها177 قصيدة عمودية, و62قصيدة تدخل في إطار الشعر الحر, و7موشحات ما بين مخمسات ورباعيات, وقصيدة نثرية واحدة, و3ملاحم إحداها عمودية وهي(معجزة العروبة) لمصطفى نعمان البدري, تقع في 300بيت, واثنتان من الشعر الحر وهما(الشمس تشرق على المغرب) لكاظم جواد وبلغت 140سطرا, و(إلى جميلة) لبدر شاكر السياب بلغت 144سطرا.

والقصائد العمودية ذات قافية واحدة مثل قصائد محمد المهدي وعبد الكريم الدجيلي وحافظ جميل ومحمد بهجة الأثري, وقصائد متنوعة القوافي(نداء الأم)لآمال الزهاوي,  و(يا فتاتي)لإسماعيل القاضي, و(تحيا الجزائر)لأميرة نور الدين,و(جميلة)لحاتم غنيم, و(فتى من الجزائر)لحسن البياتي ... وغيرها.

يقول حميد حبيب الفؤادي في قصيدة(أراد الطامعون):

لن يمروا

لن يمروا

مرة أخرى على أرض الجزائر

الجزائر

قسما في كل ثائر

إنها رمز البطولة

أرض كل الشرفاء

رمز عز وإباء

أرض صناع الإرادة والرجاء

يحتفي الشاعر بالثوار والثورة التحريرية الجزائرية , ويضفي عليها قداسة ,فهي المثال الذي تقتدي به كل الشعوب العربية.

وفي قصيدة( من وحي ثورة الجزائر)لحسين بحر العلوم :

يا دمائي

موجي الكون بعنف الخيلاء

واهتفي

عش يا جبين العرب مزهو العلاء

الخلود الضخم للعدل برغم الالتواء

يا دمائي

اغسلي عن وجهه زيف الطلاء

واشرقي كالشفق الضاوي بعزم وفتاء

ليرى الحق (بوهران)سجلا للعلاء

طافحا بالتضحيات السُّم في موج الفناء

ومن العناصر الجديدة التي دخلت الشعر العربي عن طريق الشعر الحر الأسطورة (فالشاعر المعاصر اليوم أخذ يعتمد على استخدام الرمز والأسطورة والتراث الفلكلوري ... ومن هنا نجد أن السياب اعتمد على التراث العراقي القديم , والبياتي التراث العالمي , ونازك الملائكة الانجليزي , وسعدي يوسف اعتمد على ما يوحيه له الفلكلور والمأثورات الشعبية اليومية).

وقد  استعمل البياتي الرمز والأسطورة في قصيدة(رسالة من مقبرة)يرمز فيها إلى معاناة الثائر بالجزائر وبأقطار الوطن العربي فيتصف بالصمود عند صعود جبل جلجلة والذي صعد إليه المسيح عليه السلام حاملا على كتفه صليبه , كما يرمز إليها أيضا بصخرة سيزيف في الأسطورة اليونانية التي تروي أن الآلهة اليونانية حكمت عليه بالعذاب الأبدي المتمثل في حمله لصخرة ضخمة ورفعها من الوادي إلى قمة الجبل , حيث تفلت من بين يديه وتتدحرج إلى أسفل الوادي , فيعيد رفعها وهكذا يستمر وتتكرر لعقوبة. يحث يقول البياتي:

وعر هو المرقى إلى الجلجلة

والصخر يا سيزيف ما أثقله

سيزيف...إن الصخرة الآخرون

سيزيف ألقى عنه عبء الدهور

واستقبل الشمس على الأطلس

وفي قصيدة (إلى جميلة )يشبه جميلة ب(عشتار)آلهة الخصب والحب والإحسان لدى البابليين ,لكنها لم تعط مثلما أعطت جميلة بوحيرد للإنسانية, ويستعمل في نفس القصيدة قصة(قابيل وهابيل)ابني آدم ـ عليه السلام ـ ويرمز للعدوان من خلال قتل الأول للثاني, وينزه الفقراء بالجزائر والعالم من النزعة العدوانية, ويصف الثورة بثورة الفقر:

عشتار أمَّ الخصب , والحب ,والإحسان ,الربَّة الوالهة

لم تُعط ما أعطيتِ , لم ترو بالأمطار ما روَّت قلب الفقير

 

موضوعات شعر الثورة بالعراق

يعتبر عقد الخامس والسادس من أهم عقود القرن الماضي, حيث حملت هذه الفترة تفاعلات سياسية واجتماعية وقومية, تمثلت في توسع التعليم خاصة الجامعي منه, وارتفاع مستوى أجهزة الإعلام وانتشارها, واتجاه المواطن العربي للبحث عن أنجع الطرق لبناء دولة عصرية حديثة, ونظام اجتماعي يكفل له التطور والعدالة, ويحقق الحرية والتمتع بثروات بلاده, وكانت هذه التفاعلات جميعها تتم وسط جو مشحون بالصراع بين نظام الاشتراكية من جهة, وبين النظام الرأسمالي من جهة أخرى.

وكان الجيل الجديد الصاعد بين هذين العقدين موزعا بين العقيدة الشيوعية, والتفكير المحافظ المتمثل في التفكير الإسلامي, ثم ظهر تيار ثالث هو التيار القومي الذي أخذ من الشيوعية نظامها الاقتصادي والاجتماعي, ثم ألبسه ثوب القومية العربية.

وقد وجد كل منتم إلى كل تيار من هذه التيارات المتصارعة في الساحة العربية وجد في الثورة الجزائرية متنفسا لوجدانه وتفكيره الذي يؤمن به, لأن الثورة الجزائرية ــ وهذا شأن الأحداث الإنسانية الكبرى ــ تتميز بطابع إنساني يعتمد على نبذ كل ماهو مظلم في الحياة الإنسانية.

حظيت الثورة بقلوب العرب فوقفت منها شعوب موقف المؤيد لأحداثها سواء الشيوعي أو الإسلامي أو القومي العربي, وهذا هو سر غنى الشعر الذي قيل في الثورة الجزائرية.

يصعب حصر سائر الموضوعات التي تطرق إليها الشعراء العراقيون عن الثورة الجزائرية , لأنها موضوعات متعددة ومتشعبة , ومنها التقليدية العمودية ومنها العمودية المتجددة , ومنها القصيدة المتحررة من عمود القافية., وسار شعر الثورة مع الأحداث التي مرت بها الثورة الجزائرية خلال فترة الخمسينات والستينات, ومن المواضيع التي عالجها الشعر العربي حول موضوع الثورة الجزائرية نذكر :

1 ــ قوة الثورة وصلابة عودها : لقد صور الشاعر العربي الثورة الجزائرية بألوان من البرق والرعد , فكان الشاعر يغني لقوة الثورة وصلابة أبنائها , فكان الشعر صادقا في تعبيره , جزلا في تراكيبه.

يرى الشاعر أحمد الدجيلي أن الثورة الكبرى فاجأت المستعمر , وانتشرت بين الجماهير:

فإذا بالثورة الكبــــــرى وقد                عمَّت الشعب رجالا ونساء

ومشت في كل روح ودم                لهبها يقــــــــــطر عزما وفناء

ويتساءل  حارث طه الراوي عن تراب الجزائر , فيكشف أن موقعه تحت دماء المجاهدين والشهداء, لكن الثورة التحريرية نشرت الرعب في قلوب الأعداء الظالمين الذين صاروا مقتنعين بأنه مهما ازداد بطش الاستعمار , فإن النار التي أوقدها سوف يشوى بألسنتها :

لا تسل أين ثراها            إنه تـــــــــــــــــــــحت دماها

وسيـــول الدمــــــــــع لـــم تــــــترك توبــــــا في قـــــــــــــــراها 

وبيوت القوم أنـــقا           ض بها الويل تناهى

بوركت ثورة شعب           يرهب الباغي صداها

كلما أمعن فتكــــــــــــا          وعتوا وتبـــــــــــــــــــــــــــاها

فهو يدري أي نار          سوف يصلى في لظاها

ويرسم خضر عباس الصالحي صورة من العنف الثوري, والقوة والتدفق النضالي الثوري, فيجعل شعب الجزائر يعانق صميم الموت, ويندمج وسط أشلاء أبنائه المتطايرة في الفضاء, تحيط به طلائع من كوكبات المجاهدين المتقدمة نحو المجد العزة :

شعب يعانق صدر الموت مقتحما            مجازرا ولها الأشلاء تنتشر

هذي طلائعه للمجـــــــــــــــــــــــــــــد زاحفة         وتحت أقدامه الطغيان ينتحر

دم الشهيد سيبقى رمز نهــــــــــــضته         حتى يرى معقل الأشرار يندثر

هذي الجزائر عبر النـــــــــــــــــار ثائرة         كأنما الحرب في أوراسها سقر

2 ــ وصف بطولات الثوار:

تغنى الشعراء ببطولات أبناء الجزائر , فالشاعر أحمد حسن رحيم في قصيدة (سيف الجزائر)يكني الجزائر بأم البطولات , ويوجه لسيفها الذي لا يعرف الوهن ألف تحية , فالجزائر رفعت جبين كل عربي حزين وجعلت وجهه تعلوه الفرحة والسرور:

فيا أم البطولة ألف مرحى               لسيف ليس تضعفه الفلول

رفعت جبين موتور كئيب               أضرَّ به التمزق والثكول

 ويقول بدر شاكر السياب يقول في قصيدة (إلى جميلة)نحن الفقراء الذين صنعنا بطولات ثورة الجزائر,يحكمون علينا بأننا خلقنا فقراء ,وأننا نتوارثه أبا عن جد,فقابيل فينا لم يقتل أخاه هابيل,أي أننا نحن الفقراء لم نظلم ولم نحقد ,ولم ننتقم , وإنما  ثرنا ثورة مشروعة ,يقول:

نحن بنو الفقر الذي يزعمون

في كل عصر إنهم وارثوه

قابيل فينا ما تهاوى أخوه

من ضربة الحقد الذي يضربون

بالأمس دوَّى ثرى يثرب

صوت قوى من فقير نبي

3 ــ أمجاد  جيش التحرير ومعاركه:

كان جيش التحرير الوطني محور قصائد شعراء الثورة , فهم لم يكتفوا بتمجيد البطولات فقط, بل أشادوا بمعاناة الجنود , وقد وصفوهم بعدة صفات منها (جيش الصعق , جيش النصر , أصدقاء الليل).

يقول محمد راضي جعفر في قصيدة بعنوان(نسور الجزائر):

أملي النسور على ذرى وهران              شمخت بأنف الأصيد الغضبان

تحفزت تواقة ... فإذا بـــــــــــــــــــها              شماء تهدر بالدخيل الجـــــاني

ومشى الهدير مع الدروب أغانيا           بفم الزمان .. فيا لهن .. أغاني

الله.. تلك نسور يعرب إنـــــــــــــــها             برزت تصد طوارق الحــــــــدثان

أهدى الشاعر القصيدة لنسور الجزائر أمثولة الكفاح العربي, فهو يشبه جيش التحرير بالنسور التي تهدر بالأغاني التي سرت على فم الزمان, عبرت عن أمجاد العروبة في العزة والإباء, أنهم نسور يعرب التي تصدت لطوارق الزمان والدهر.

4 ــ جميلة بوحيرد ونضال المرأة الجزائرية:

احتلت المناضلة الجزائرية بوحيرد حيزا كبيرا في الشعر العراقي, فأكثر من 30 قصيدة من الموسوعة حملت عنوان (جميلة), والحديث عن المناضلة هو تمجيد لنضال المرأة الجزائرية .

وقد قدم الشعراء جميلة في عدة صور منها الصورة القومية(ابنة العروبة), وخولة بنت الأزور الجديدة, وقدمت في صورة إنسانية مثل(عشتار, ربة الخصب, اللحن القدسي, نشيد البحر المتلاطم...)يقول عبد الجواد البدري في قصيدة (أنا فكرة):

اقتلوني

أنا فكره

في العقول النَّيِّره

في النفوس الخيِّره

في دموع الكادحين

في قلوب الطيبين

عبر آلاف السنين

مستقره

أنا فكره

لقد نظم الشاعر هذه القصيدة وأهداها لبوحيرد سنة1958, فقد جسد الشاعر الثورة الجزائرية في جميلة بوحيرد, واعبر الثورة فكرة  وليست كائنا من لحم ودم , ولذلك فهي لا تموت بموت الأشخاص , وهي فكرة كامنة في العقول والنفوس ودموع الكادحين , منذ أن ظهر الإنسان على وجه الأرض.

أما السياب في قصيدته (إلى جميلة) فهو يشبهها ب(عشتار)آلهة الخصب . يقول:

عشتار أم الخصب والحب والإحسان , تلك الربَّة الوالهة

لم تعط ما أعطيت , لم ترو بالأمطار ما رويت قلب الفقير

يا أختنا المشبوحة الباكية

أطرافك الدامية

يقطرن في قلبي ويبكين فيه

لم يلق ــ ما تلقين أنت ــ المسيح

أنت التي تفدين جرح الجريح

تعلو بك الآلام فوق التراب

الشاعر هنا يشبه جميلة  بالربة  البابلية(عشتار)إلهة الخصب والحب والإحسان, ويعتبر ما قدمته جميلة للعرب والإنسانية أهم مما قدمته عشتار لعابديها, كما يشبهها بالمسيح الذي صلب من أجل عقيدته .

 

المحاضرة 2:  القضية الفلسطينية في الشعر العربي الحديث والمعاصر:

 

يهدف الشعر إلى تنوير الشعوب وتحريض الأمم التي تناضل من أجل حريتها , وبلورة الوعي الثوري والحضاري  لدى الجماهير, فهو شكل من أشكال الوعي الاجتماعي المتميز كما له دور جمالي باعتباره قيمة فنية.

لقد كانت التجربة الأدبية أكثر معاناة وعلاقة بمأساة الوضع العربي, وأكثر وعيا بالواقع العربي, ووقائعه المتكاثرة وتناقضاته المختلفة خاصة بعد حرب الخليج الثانية.

يتضمن مفهوم المقاومة إذا مفهوم التحرير الذي يتضمن فكرة التغيير, ويتحول مفهوم المقاومة في الإنتاج الإبداعي إلى إحدى القيم الإنسانية المطلقة خاصة في المنطقة العربية, ويعزز مفهوم المقاومة مفهوم الهوية.

إن نكبة فلسطين سنة 48قد أحدثت صدمة استجابت بالتعبير عن مشاعر الكراهية والعار والرفض بطريقين :

ــ سلسلة من الثورات والانقلابات التي باتت تهز الوطن العربي .

ــ الكتابة الإبداعية لدى بعض رواد الشعر والقصة.

لقد أحس الشعراء الرواد في فترة الأربعينات بجدية الموقف , لذلك اتسم موقفهم بالحزن والمأساوية, وانتشرت في أشعارهم كلمات تدل على ذلك مثل(القلق ,الغربة, الرفض ,التمزق ,الضياع ,البحث عن الهوية)والحقيقة أن كثيرا من الشعور يدور حول البحث عن الجذور, وتغيير وجه الأشياء, وندب المصير, وقد سماه أحد الكتاب ب(إيقاع الرعب)الذي يتخلل الشعر.

ويمكن وصف الفترة ما بين 1948و1967بأنها فترة بحث دائم عن قيم جديدة وعن حل للمأزق العام, وهو بحث لا يدعمه أي نظام فكري فعال, لذلك سماه(حليم بركات)استنادا إلى تعريف دور كايم(بالأنوميا) أي عندما تنهار المعايير القديمة دون أن تحل محلها معايير جديدة, وهذا سبب من أسباب الغربة الروحية.

يصطدم الفرد العربي بالفرق الكبير بين الآمال الكبيرة التي نبثها فيه معرفته بالحياة الحديثة وطموحه الوطني, وواقع حياته , لقد كان الأمل في الثورة هو أن تنقد الشعب من الفساد والجهل اللذين قادا إلى كارثة 1948, لكن الثورات أخفقت مما أدى إلى الشعور بالغربة .

لقد وصلت مواقف الغضب والبؤس إلى الكاتب العربي في شكل  مواقف أدبية ناضجة من الكتب المترجمة خاصة ل(سارتر,كامبو,ويلسن..)وعالجت عدة مواقف منها مسؤولية الإنسان في تحمل عبئه ونفوره من الأغلال .

قد تأثر بهذه الأفكار الكتاب العرب مثل السياب الذي يظهر الموت والحزن كثيرا في شعره , فصورة الموت التي تنتظر الشاعر والموتى الذين ينادونه:

وتدعو من القبر أمي ) بُنيَّ احتضنِّي فبرد الردى في عروقي فدفئ عظامي

بما قد كسوت ذراعيك والصدر واحم الجراح)

 والسياب في أشعاره يميل إلى البساطة الشديدة, فهو يكتب بلغة الإنسان الحضري, وإذا سافر للعلاج بالخارج يعصف به الحنين إلى الأهل والوطن.

إن الوحدة وعبء الشيخوخة هي من أسباب القلق والغضب في شعر(بلند الحيدري) العراقي, وتظهر في نظرة عابسة حين يقول(سئِمَتْ وجهكِ نفسي, اتركيني .. لي مرمى وممر في دروب الشمس أعمى... أنا للناس وللنسر الذي ينهش صدري /أنا موتي).

أما أدونيس في شعره فهو يرفض الحياة الاجتماعية والسياسية, ويأمل في يقظة قومية, وتصبح تجربة الشاعر تنم عن قوة وأرق, تعكس عذاب الإنسان الأزلي, وبحثه عن الحقيقة.

وبرزت سمة الرفض في الشعر العربي المعاصر وخاصة رفض العالم الخارجي (الاجتماعي والسياسي), لأن الخطر اليومي الذي يهدد حياة الفرد هو الخطر الأكثر قربا من الشاعر , وقد اختار المنفى معظم شعراء الطليعة , وهو منفى ذهني , وقد يكون جسدي من جراء الخيانة, من ذلك قول خليل الحاوي:

(سوف يمضون وتبقى

فارغ الكفين مصلوبا وحيدا )

يجيب الشاعر:

يعبرون الجسد في الصبح خفافا

أضلعي امتدت لهم جسرا وطيد

يلجأ بعض الشعراء إلى طرق مختلفة للتعبير عن تمردهم, فاستخدام الأساطير ومواد التراث الشعبي تكثف تأثير تجربة الشاعر, إذا أحسن استعمالها, فقد شبه شعراء التمرد أنفسهم بشخوص الأساطير أمثال سيزيف أو السندباد, يقول أدونيس:

أقسمت أن أكتب فوق الماء

أقسمت أن أحمل مع سيزيف

صخرته الصماء

أقسمت أن أظل مع سيزيف

أخضع للحمى وللشرار

أبحث في المحاجر الضريرة

عن ريشة أخيرة

تكتب للعشب وللخريف

قصيدة الغبار

لم تكن كارثة فلسطين دائما موضع معالجة مباشرة , بل تكمن خلف مواقف مختلفة من الغضب والغربة والأسى , لكن الشعر في الخمسينات والستينات لم يرتفع إلى مستوى الحدث , رغم أن هناك قصائد قد دعت مباشرة للنكبة مثل (قافلة الضياع) للسياب , (أنشودة المطر)(قصائد إلى يافا)لعبد الوهاب البياتي , (المجد للأطفال والزيتون) (الملجأ العشرون)للبياتي.

كان بمقدور الشعراء أن ينظموا قصائد عن النكبة , وكانت هناك تيارات متضاربة , فلم يكن هناك توازن أما من داخل فلسطين فكان الشعر ينبئ بالصمود والتحدي , كما يؤكد ذلك محمود درويش:

لم نكن قبل حزيران كأفراخ الحمام

ولذا لم يتفتت حبنا بين السلاسل

نحن يا أختاه من عشرين عام

نحن لا نكتب أشعارا

ولكنا نقاتل

إن موقف التحدي والصمود برزا أيضا في أشعار الوطن العربي أمثال البياتي وغيره من الشعراء الاشتراكيين, ونبرة التحدي شديدة القوة عند بعض شعراء الغربة الفلسطينيين مثل يوسف الخطيب, وكمال ناصر, وأقل من ذلك عند غيرهم أمثال نزار قباني, وهناك شعراء يلتزمون بالجدية والابتعاد عن الفكاهة مثل أدونيس وإيليا الحاوي وبلند الحيدري, والشعر النسوي أيضا استطاع أن يعبر عن الموقف الشخصي والجماعي مثل فدوى طوقان, ونازك الملائكة التي تجمع بين الغضب والنبرة الواقعية.

أما في عهد الانتفاضة الفلسطينية فقد ظهر (شعر الانتفاضة )أو (شعر المقاومة) ومن الشعراء الذين أثبتوا حضورهم الشعري وكتبوا عنه يوسف سعدي , محمود درويش, نزار قباني , سميح القاسم , عز الدين المناصرة...

يقول نزار قباني :

يا تلاميذ غزة لا تبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالوا          بإذاعاتنا ولا تســــــــــــــــمعونا

اضربوا ...اضربوا بكـــــــــــــــــــــل قواكم          واحزموا أمركم ولا تسألونا

نحن أهل الحساب والجمع والطرح            فخوضوا حروبــــكم واتركونا

إننا الهاربون من خدمة الجيـــــــــش          فهاتوا حبـــــــــــــــــالكم واشنقونا

إن من وظائف الشعر إعادة صياغة الواقع جماليا, ويكون ذلك بامتلاك الوسائط الفنية التي هي وحدها قادرة على الارتفاع بالنص إلى الخلود والابتكار والدهشة.

أما عن يوسف سعدي فقد أشاد بأبطال الحجارة في قصيدة (إنه يحي)التي تميزت بلغتها الإشراقية الفنية الموحية,و(يحي)هو رمز المناضل الفلسطيني المقاتل والشهيد, وهو الرمز الحي الذي لم يمت, فهو طاقة ثورية تعيش في أرواحنا, يقول:

رايات يحي ثوبك المنخوب بالطلقات

يحي في البراري

في قطرة الماء التي انسكبت على القدمين

وانسربت بأفئدة الصغار

رايات يحي تعبر الأنهار والطرق التي اكتظت

وتدخل في منازلنا , مضرجة السّرار

من بيت إبراهيم

لقد عبر الشعراء عن الوطن برموز كثيرة منها:

ــــ  المرأة المحبوبة (الوطن):

أحس الكثير من الشعراء بهول ما حدث للعالم العربي , وأدركوا أنهم مسئولون عما حدث لذلك انخرط الشعراء في سلك جديد , يعبرون فيه عن الوطن وعن الوجدان الجمعي ,وقد ارتبط الوطن بالمعشوقة (الأم)(إيزيس)(سبأ)(النهر)(العروس)...

وصارت المرأة رمزا للوطن بأسره , وأصبح الشعر رمزا دائما لعشق الوطن الممزوج بالحزن والحيرة والذهول لتردي الأحوال. يقول صلاح عبد الصبور في (البحث عن وردة الصقيع):

أبحث عنك في مفارق الطرق

واقفة ,ذاهلة , في لحظة التجلي

منصوبة كخيمة من الحرير

يهزها نسيم صيف دافئ

أو ريح صبح غائم مبلل مطير

فترتخي حبالها , حتى تميل في انكشافها

على سواد ظلي الأسير

ويبتدي لينتهي حوارنا القصير

...

أبحث عنك في مرايا علب المساء والمصاعد

أبحث عنك في زحام الهمهمات

معقودة ملتفة في أسقف المساجد

ـــ الشعر والتراث:

أدت نكبة فلسطين إلى انفجار هائل مزق النفوس العربية, وعبث بوجدانها وشككها في كل الثوابت والمسلمات, وجعلها تبحث عن سبيل جديد للبناء وتشكل هويتها وشخصيتها القومية, لذلك اهتم الشعراء بالتراث العربي والإسلامي يبحثون فيه عن إجابات لأسئلتهم المتكررة, ويفتشون عن عناصر ومقومات شخصيتهم الحضارية, وأسباب هزيمتهم, لذلك أصبح التراث مصدرا من مصادر الشعر, وانقسم الشعراء إلى:

أــ مهتمين بالتراث الإسلامي:

حيث اقتبس الشعراء من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف , والقصص القرآني , يقول أمل دنقل:

هذه الأرض التي ما وعد الله بها

من خرجوا من صلبها

وانغرسوا في تربها

وانطرحوا في حبها

مستشهدين

...

فادخلوها بسلام آمنين

ب ــ الاهتمام بالتراث التاريخي:

التاريخ مليء بالأحداث والوقائع التي تقترب من واقع الأمة العربية , لذلك استغلها الشعراء مثل ثورات الزنوج , الخوارج , غزوة بدر, عمورية...

جـ ـــ التراث العالمي:

عكف الشعراء على التراث العالمي يقرؤونه بحثا عن نموذج وقناع لا يكشف ,يقول محمد إبراهيم أبو سنة في قصيدة(ملامح وحوريات البحر):

عبثا يا ملامح الأحلام

كانت رحلتك إلى عرض البحر

فالساحرة الشوهاء

ذات الصوت المنسوج من المخمل

من وعدتك بقصر من مرمر

ووسائد من ريش الطير

تسكن جزر القار

تدخر لأحلامك مقصلة حمراء

وستمسح كل قصور المرمر

 

محاضرة: البعد الوطني والقومي في الشعر العربي الحديث والمعاصر

        إن شخصية الإنسان في تركيبتها مرتبطة بحضارة الأمة من ناحية نمط التفكير والقيم ورؤيتها للحياة, ومن هنا يصح القول أن الأدب هو مرآة شخصية الأمة وخصائصها الإنسانية, ويتجسد ذلك في آداب الأمم في مراحل ازدهارها وقوتها, فهي مرآة صادقة لنزاعات الأمم وتجسيدا لخصوصيتها الإنسانية, ونجد ذلك جليا في الأدب الإغريقي والأدب العربي القديم في الجاهلية والإسلام, فالملحمة الإغريقية هي تجسيد تاريخي للواقع ويعبر عن الوعي الجماعي لذلك المجتمع, فعناصر القوة في تاريخ الأمة يتسرب بشكل لا شعوري في أعماق الوعي الفردي, وينعكس على صورة الأدب (المعبر عن واقع الأمة وتاريخها), وكذلك الحال بالنسبة للأدب العربي في عصر ما قبل الإسلام, فالشعر هو ديوان العرب ومرآة أمجادها, ولعل المعلقات خير دليل على ذلك .

 مفهوم الوطن:

لغة : هو مكان الإقامة, لأنه يوطن النفس الإنسانية , ويجعلها تشعر بالطمأنينة والأنس, لذلك ينسب الكثير من الأدباء والعلماء لبلدانهم منها الجزائري والعراقي والفلسطيني...

وقد وجب علينا الولاء للوطن , وكل مواطن يعمل في مجال اختصاصه لكي يكونوا مكملين لبعضهم .

وفي العصر الحديث تحددت معالم الوطنية منذ بدأ الاستعمار الغربي وبدأ تقسيم الوطن العربي إلى دويلات وتشكلت الحدود الوهمية,

وكثيرا ما اقترن الوطن بالتراب والأرض والمولد ,مما يخلق ذكريات عزيزة تتردد أصداؤها في نفسه, ونتيجة التهجير والتعسف الاستعماري أجبر الكثير من الشعراء للترحيل عن بلدانهم , لتهيج في المنافي مشاعر الشوق في نفوسهم ويقوى الحنين للوطن.

تعريف القومية :

هي الانتماء إلى أمة معينة والتعلق بها ,والقومية تقوم على عنصرين اثنين: عنصر موضوعي وهو مجموعة الروابط المشتركة التي تجعل من شعب معين أمة بالمدلول العلمي كاشتراك في اللغة والعرق والأصل والعقيدة, وعنصر آخر شعوري معنوي : هي الحالة النفسية التي يولدها قيام تلك الروابط التي هي شعور الانتماء المتبادل والشعور بالوحدة التي يكونها هذا الانتماء, والقومية العربية هي الحركة التي تنادي بحق الأمة العربية في تكوين وحدة سياسية مستقلة , وقد بدأت الحركة العربية القومية الحديثة بثورة العرب على الحكم العثماني سنة 1916, وتحققت أولى نتائجها بقيام جامعة الدول العربية سنة1945, وتعتبر هذه الحركة المحرك الأول لحركات الاستقلال ومشروعات الوحدة التي شهدها العالم العربي في بداية القرن العشرين.

لقد مر الشعور القومي عند العرب بعدة مراحل, فبدايتها كانت مع تحديات الاستعمار الأوروبي ابتداء من غزوة نابليون بونابارت لمصر, إلى احتلال الجزائر وتونس.. وقد ارتبط بالشعور الديني, وهو عنصر أساسي في الماضي القومي, لذلك يتكامل الشعور العربي والشعور الديني, كما كان لتركيا في أواخر القرن العشرين دور في استفزاز العرب ودفعهم لليأس وهذا ما دعا بالمثقفين العرب السوريين إلى إنشاء المنظمات والجمعيات السرية لنشر الأفكار القومية, فظهرت جمعيات مثل (المنتدى العربي)و(القحطانية)و(حزب اللامركزية)..

أما المسيحيين في لبنان فكانوا يريدون نظاما خاصا بهم باعتبارهم أقلية , لذلك دعوا إلى القومية العلمانية , ليفرغوا التحرك القومي العربي من الدين , تشمل بذلك القومية اللغة والثقافة .

وبعد احتلال فرنسا وبريطانيا جل البلاد العربية (فلسطين , سوريا, ولبنان..)كانت خيبة أمل كبيرة للحركة القومية العربية لذلك وجهت جهودها للتحرر والوحدة , لكن طريقها كان مليئا بالمخاطر , وذلك أن الاستعمار كان يدعو للتجزئة , فقد كان يدعم الحركات الانفصالية بين البلدان , وحاول محاربة الدين , ثم عمل على نسف الوعي القومي العربي , لذلك ظهرت تيارات كثيرة بعد الحرب العلمية الأولى تدعو للقومية الوحدوية منها الآشورية في العراق والفنيقية في لبنان, والفرعونية في مصر, والبربرية في المغرب فأخذت كل بلاد تنفض عنها غبار الزمن وتعمق الإحساس الوطني بماضيها ولغتها وتاريخها, لكن في الحقيقة هذه مناورات المستعمر أراد بها تحقيق تجزئة جديدة في الكيان القومي, فهي تدعو إلى التفرقة العرقية, ففي المغرب تجزئة بين العرب والبربر, وفي مصر بين القبط والعرب, وكذلك في لبنان وسوريا والعراق, حسب ظروف كل بلد, فسوريا الكبرى قسمت إلى فلسطين ولبنان وسوريا سنة 1920, وكانت لبنان أكثر تنوعا دينيا, لذلك كانت سباقة إلى الاتصال بأوروبا, وساعد ذلك على تمكين الغزو الثقافي الأجنبي, لذلك رسخت فرنسا الوضع الطائفي في لبنان.

  والقومية في الأدب هي التمسك بالموضوعات التي تهم كل أبناء الأمة الواحدة والتحمس لها من حيث الاتجاه نحو الدفاع عن القضايا الوطنية وإبراز ما يحدث القراء على التمسك بقيمهم في مواجهة خطر حقيقي أو متصور.

 أما اللغة العربية فقد تقمصت كل معاني القومية العربية وأصبحت رمزا للوجود العربي فاكتست طابع السلاح في معركة التحرر من نير السلطان العثماني أولا ثم معركة مقاومة المستعمر ثانيا , واهتم الشعراء برد الاعتبار إليها , وذلك بجهود كبيرة لإحياء تراثها وغنى معاجمها , وقد نظم العديد من الشعراء قصائد للاعتزاز باللغة العربية والتعبير عن الأسى لما أصابها ومن هؤلاء حافظ إبراهيم, والرافعي, وسليمان ناجي, وفؤاد الخطيب..., يقول الرصافي :

ألا انهض وشمر أيها الشرق للحرب           وقبل غرار السيف واسل هدى الكتب

ولا تغترر أن قيل عصر تمدن             فإن الذي قالوه من أكذب الكذب

وفي الجزائر ظل الشعر العربي يدعو إلى الوحدة القومية ونبذ العصبية الإقليمية والمذهبية , يقول الربيع بوشامة:

ياليت شعري أيرجو أن تدوم له          أوطان أحمد عبدان وأملاكـــــــــــــــــــــــــا

كلا, ورب السما لا يرتضي أبدا          شعب العروبة عيشا تحت أعداكا

ولن نكون عبيدا خضعا لهــــــــــوى          حكم عثا بذرى الأوطان سفـــــــــــاكا

عيد الهوى والعلا ما كان أحلاكا          وما أعز طوال الدهر محيــــــــــــــاكا

 

المحاضرة 3:     لغة القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة

اللغة هي العنصر الأساسي في التشكيل الشعري , وهي الأداة الأم التي تخرج كل الأدوات الشعرية الأخرى.

وهناك فروق بين لغة الشعر ولغة النثر , فللشعر لغة خاصة داخل اللغة , ويستهلك المضمون الشعري ويفنى في  البناء اللغوي الذي يتضمنه , بحيث لا يمكن الفصل بينهما , فالمشاعر والأفكار كلها تتحول في البناء الشعري إلى عناصر لغوية , فإذا اختل البناء اللغوي اختل معه الكيان النفسي والشعوري .

أما في النثر فاللغة هي وسيلة تؤدي غرضا محددا, وتوصل إلى غاية معينة, ثم دورها ينتهي, أما اللغة في الشعر فهي غاية في حد ذاتها, وهي لغة مختارة تعبر عن عمق التجربة, ويعبر عن تجربة ذاتية وإن كان يتجه إلى المجموع, وذلك من خلال تفاعل الذات معه, والشعر يستنفذ من الكلمات كل طاقاتها التصويرية والإيمائية والموسيقية.

يوضح بول فاليري الفرق بين استخدام الناثر للغة واستخدام الشاعر لها , بمثال الخطوات بالنسبة لكل من الماشي والراقص , فكلاهما يستخدم نفس الخطوات , ونفس أعضاء الجسم التي يستخدمها الآخر , لكن الخطوات بالنسبة للماشي وسيلة توصله إلى هدف معين وينتهي دورها بالوصول إلى الهدف , في حين أن الخطوات بالنسبة للراقص غاية وهدف في ذاتها .

كما يمكن التعبير عن المضمون النثري بأي أسلوب نثري, أما الشعر فيستحيل ترجمته من لغة إلى أخرى, لأن الشعر له خصوصية وتقاليد يتعذر نقلها.

إن لغة الشعر الحديث ثرية بالطاقات التعبيرية والإيحاءات, فقد كان الشعراء عبر العصور يهتمون باللغة, وكان إحساس الشعراء المعاصرين ـــ خاصة شعراء الرمزية ــ بمشكلة نفعية اللغة وخضوعها للمنطق, لذلك حاولوا إبداع لغة داخل اللغة, وحاولوا تزويد اللغة العادية بطاقات إيحائية.

ـــ القيمة الإيحائية للأصوات:

قد يكون لبعض الأصوات إيحاء خاص في بعض السياقات , فحروف المد مثلا في سياقات معينة تقوي من إيحاء الكلمات والصور, فقد اهتدى شعراؤنا العرب القدامى بفطرتهم اللغوية إلى بعض الإمكانات الإيحائية في هذه الأصوات , ووظفوها توظيفا بارعا , كما فعل أبو العلاء المعري في قصيدته التي قالها في مدح أحد العلويين:

عللاني , فإن بيض الأماني            فنيت , والظلام ليس بفان

وهنا هو يصور المفارقة الأليمة بين قصر أوقات السعادة وسرعة انقضائها , وطول أوقات التعاسة وبطء مرورها, والمد في الكلمة الأولى (عللاني ), يلائم نغمة الشكوى إلى صديقيه , على حين كانت كلمة (فنيت)في بداية الشطر الثاني خالية من أصوات المد لتناسب في سرعة النطق بها سرعة فناء بيض الأماني , بينما تكثر حروف المد في (الظلام , بفان)توحي بطولها وامتداد الظلام .

يقول عباس محمد العقاد حين نقل جثمان سعد زغلول إلى ضريحه:

أعبر القاهرة اليوم كما               كنت تلقاها جموعا نظاما

لحظة في أرضها عابرة               بين آباد طوال تترامى

فالشطر الأول من البيت الثاني التي تصور قصر اللحظة التي يمر فيها نعش سعد بالنسبة لتاريخ مصر الطويل الممتد تقل فيها حروف المد (أعبر, اليوم, لحظة, أرض), مما يساعد على الإيحاء بقصر هذه اللحظة, في حين امتلأ الشطر الثاني بحروف المد(آباد , طوال, تترامى) ليدل على الطول والامتداد, مقابل السرعة والقصر في الشطر الأول.

إن إيحائية الأصوات غير مقصودة عند الشعراء القدامى, وقد تنبهوا إليها بمحض فطرتهم اللغوية, وحاول بعض الشعراء الغربيين إعطاء إيحائية للأصوات, فأعطى (رامبو)كل حرف مد لونا خاصا, مثلا A أسود, E أبيض, I  أحمر, U أخضر, Oأزرق , فمثلا I تذكر حمرته بالأرجوان, والدم, وضحك الشفاه الجميلة, أو السكرة النادمة.

وقد حاول الشعراء العرب تقليد( رامبو)فحاولوا إعطاء قيمة إيحائية لبعض الأصوات من ذلك تجربة الشاعر العراقي (ياسين طه حافظ) في قصيدته (تجربة في الموسيقى), وقد سارت هذه المحاولة في اتجاهين :

ــ تحويل بعض الكلمات إلى مجموعة من الأصوات الموسيقية في السلم الموسيقي (دو ,ري, مي, فا, صول, لا, سي, )

ــ استغلال عنصر التكرار في إضفاء جو موسيقي خاص عن طريق الإكثار من تكرار حرف معين , أو حرفين متشابهين , من ذلك:

دوي الرياح ميراثنا الفاجع في صورة الأوجه اللاجئات إلى بعضها من سيول تسافر بين الجبال.

وهناك محاولة أخرى أكثر نضجا وهي قصيدة (الصلاة) لأمل دنقل , حيث استغل عنصر التكرار الصوتي لإعطاء جو موسيقي , يقول:

تفردت وحدك باليسر, إن اليمين لفي خسر, أما اليسار ففي العسر, إلا الذين يماشون, إلا الذين يعيشون يحشون بالصحف المشتراة العيون فيعيشون, إلا الذين يَشون , وإلا الذين يوشون ياقات قمصانهم برباط السكوت.

إن تكرار الوحدة الصوتية (شون) وقبلها (سر) (الخسر ,اليسر, العسر), أكسب هذا التكرار قيمة موسيقية تضافرت مع بقية العناصر الإيحائية الأخرى عند تصوير الجو السلبي الذي لا يحظى فيه بالأمن إلا من كل النماذج السلبية.

إن المقطع كله بيت واحد مدور عوض غياب بعض العناصر الموسيقية ب (تراكم الجناس), لكن لا أحد يحس أن هذا التراكم مقصود.

ـــ القيمة الإيحائية للألفاظ:

تمتلك الألفاظ المفردة قيمة إيحائية خاصة, وإذا أحسن الشاعر استغلالها فإنها تثري الأدوات الشعرية, واهتم بعض الشعراء المعاصرين بإيحائية اللفظة خاصة الرمزيون منهم والسرياليون, حيث كان الرمزيون يختارون الألفاظ المشعة , حيث توحي اللفظة بأجواء نفسية وتفيد ما لا تفيد في أصلها , وقد بالغ بعضهم في الاعتماد على الطاقات الخاصة للكلمات  إلى حد تجريد السياق من العلاقات التركيبية اللغوية المنطقية , أما عند السرياليين فقد اعتمد بعضهم على الكلمات المفردة فيمنحها طاقات إيحائية , ومن هؤلاء الشعراء الرومانسيين نذكر أبو القاسم الشابي , علي محمود طه, فضلا عن الشعراء الرمزيين العرب مثل بشر فارس , أديب مظهر , سعيد عقل , صلاح لبكي..

ومن النماذج التي اعتمدت على القيمة الإيحائية للكلمة أبو القاسم الشابي في قصيدته (صلوات في هيكل الحب), يقول:

عذبة أنت كالطفولة , كالأحلام , كاللحن, كالصبـــــــــاح الجديد

كالسماء الضحوك, كالليلة القمراء, كالورد, كابتســـــــــــام الوليد

أنت أنشودة الأناشيد غناك إله الغنـــــــــــــــــــــــــــــــــــاء, رب القصيد

فيك شب الشباب وشَّحه السحر, وشدو الهوى , وعطر الورود

وتراءى الجمال يرقص رقصا قدســــــــــــــــــــــــيا على أغاني الوجود

وتهادت في أفق روحك أوزان الأغاني , ورِقَّـــــــــــــــــــــــــــة التغريد

إن أبرز ما يجذب نظر القارئ تلك الألفاظ الموحية التي تشع جوا من الجمال والطهر والبراءة , وقد كثرت الألفاظ في القصيدة إلى درجة (التراكم)مثل (عذبة, طفولة, أحلام, لحن, صباح جديد...)إلى حد أننا نقول أنه يتحدث عن محبوبة خيالية مجردة , أما بقية الأدوات فإنها تكاد تختفي وراء إيحاء الألفاظ , فوسيلة التصوير الأولى هي التشبيه.

ـــ أسلوب الحذف والإضمار:

إن الإيحاء الذي يهدف إليه بناء القصيدة الحديثة يتطلب الإضمار , بل إنه يلجأ إلى إضمار بعض العناصر في البناء اللغوي مما يثري الخيال ويقوي الإيحاء , وبذلك يحقق الإضمار الهدف المزدوج.

لقد اهتم الشعراء العرب قديما بالحذف والإضمار , حيث اعتبر من الوسائل الإيحائية , فهو أبلغ من الذكر والإفصاح , يقول عنه الجرجاني(هو باب دقيق المسلك , لطيف المأخذ , عجيب الأمر, شبيه بالسحر).

وقد وظف الحذف والإضمار في الشعر العربي القديم توظيفا إيحائيا , من ذلك قول النابغة في رثاء حصن بن حذيفة:

يقولون حصن.... ثم تأبى نفوسهم          وكيف يحصن والجبال جنوح

ولم تنفض الموتى القبور , ولم تزل         نجوم السماء , والأديم صحيح؟

فعمَّا قلــــــــيل , ثم جـــــاء نعيـــــــــــــــــه          فظل ندى الـــــــــــــــــــــقوم وهو ينوح

كان الحذف في البيت الأول ذا إحساس عميق, فالحذف يوحي باستفضاع الناعي للخبر الفاجع, ثم يُعرِض عن الإفضاء به, بل يتعدى الأمر إلى التشكيك في حدوث الأمر, وكيف يكون حصن قد مات ؟ والوجود كما هو لم يتغير, والجبال ماثلة, والموتى في قبورهم, وهكذا تتضاعف الإيحاءات بسبب حذف خبر المبتدأ.

أما في الشعر العربي الحديث فقد أصبح الحذف والإضمار فلسفة جمالية, وغايات فنية فالحذف والإضمار يلعب دورا بارزا بين أدوات الإيحاء الشعرية في القصيدة , فلا تكاد تخلو قصيدة من هذا الأسلوب, يقول الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة في قصيدة (أغنية حب):

أفيقي, فمازال يمكن ألاَّ تكوني وساما وقبرا

ومازال يمكن أن يتوقف هذا النزيف

 ويبقى جمالك عصرا.. وعصرا

ومازال يمكن... مازال يمكن... مازال يمكن...ما..

أفيقي أحبك.

الشاعر يخاطب مصر التي أحبها وورث الحب عن أبيه وجده , ظل يعشقها أمام استباحة الطغاة , ورغم سخرية الآخرين إلا أنه يؤمن أنها قادرة على استرداد كل ما فقدته للاحتفاظ ببهائها إلى الأبد , ويجد الشاعر أن الألفاظ قاصرة عن التعبير فيلجأ إلى الحذف والإضمار فيحذف فاعل الفعل (يمكن) لأن ما تستطيعه لا تحيط به الألفاظ وكرر الحذف ليتضاعف الإيحاء, ثم يختم القصيدة ب(أفيقي أحبك)فمهما أحاط الشك والغموض بأشياء كثيرة فإن هناك يقينا واحدا وهو حبه لمصر وهو أسلوب تقريري حاسم.

ـــ التكرار:

التكرار من الوسائل التعبيرية التي تؤدي دورا بارزا , فهي بشكل أولي توحي بسيطرة العنصر المكرر وإلحاحه على فكر الشاعر وشعوره , وقد عرفت القصيدة العربية أسلوب التكرار .

للتكرار في القصيدة الحديثة وظيفة إيحائية بارزة, ويتنوع التكرار بين التكرار البسيط الذي لا يتجاوز تكرار اللفظة أو العبارة دون تغيير, وبين أشكال أخرى أكثر تعقيدا بحث يكون المكرر أكثر إيحاء.

ومن صور التكرار البسيط بقول بدر شاكر السياب في قصيدة (غريب عن الخليج) الذي يعبر فيها عن حنينه للعراق:

أعلى من العباب يهدر صوته, ومن الضجيج

صوت تفجر في قرارة نفسي الثكلى : عراق

كالمد يصعد كالسحابة كالدموع إلى العيون

الريح تصرخ بي : عراق

والموج يعلو بي : عراق , عراق , ليس سوى عراق

إن تكرار كلمة (عراق )توحي بمدى سيطرة العراق على فكر الشاعر , وهو صوت يعلو على كل الأصوات .

*أما الأشكال الأكثر تعقيدا فتظهر في مقدرة الشاعر على المزج بين عدة وسائل إيحائية لغوية أخرى , مثلما فعل محمد إبراهيم أبو سنة في المثال السابق , حين مزج بين الحذف والإضمار والتكرار.

وقد يتصرف الشاعر في طريقة التكرار بالتصرف في العنصر المكرر وصياغته, فلا يأتي بصورة واحدة , من ذلك قصيدة (سفر ألف دال) لأمل دنقل:

الشوارع في آخر الليل , آه, أرامل متشحات ينهنهن في عتبات القبور البيوت.

قطرة..قطرة.. تتساقط أدمعهن مصابيح ذابلة , تتشبث في وجنة الليل , ثم تموت.

*******

الشوارع في آخر الليل ,آه, خيوط من عنكبوت .

والمصابيح تلك الفراشات عالقة في مخالبها , تتلوى .. فتعصرها,

ثم تنحل شيئا فشيئا, فتمتص من دمها قطرة.. قطرة... فالمصابيح قوت.

لقد كرر الشاعر مجموعة من العناصر عدة مرات , وكل مرة يشكلها تشكيلا جديدا , ففي الأبيات (الشوارع والمصابيح)والوقت آخر (الليل) و(آهة)تتكرر , وهناك أشياء أخرى تتساقط وتذوب (قطرة , قطرة)نفس العناصر تتشكل في كل مقطع , ولكن الصورة كلها تدور حول الشعور بالموت والذبول.

ــ في الأولى(الشوارع) وفي (آخر الليل) تجسدت في أرامل ثاكلات يبكين في عتبات بيوتهن.

ــ (القبور والمصابيح )هي الدموع المتساقطة (قطرة , قطرة)التي تحاول أن تتشبث في وجنة الليل قبل أن تموت.

وفي المقطع الثاني تتحول (الشوارع) (في آخر الليل)إلى خيوط عنكبوت, وتصبح المصابيح هي الفراشات الضحايا التي تتلوى في قبضة الخيوط قبل أن تتحلل في مخالب الشوارع, (العنكبوت) لتمتص دمها قطرة قطرة.

وهكذا استطاع الشاعر أن يتصرف في العناصر المكررة, حيث يشكل منها كل مرة شيئا جديدا, وهكذا خلق التنوع من خلال الوحدة, فالتشكيلات كلها تدور حول محور شعوري واحد.

ــ إلغاء أدوات الربط اللغوية:

لقد تناولنا اهتمام الرمزيين والسرياليين بإيحائية الألفاظ واعتمادها دون روابط لغوية .

وقد تأثرت القصيدة العربية بذلك فشاع في الكثير من نماذجها توالي الجمل دون أدوات الربط اللغوية, وخاصة القصائد التي تتكون من الأحاسيس والهواجس المبعثرة.

ومن النماذج قصيدة (مائدة الفرح الميت)للشاعر محمد أبو سنة التي تصور انفصام الروابط بين الحبيبين  من لخلال لقاء بينهما عقب انطفاء جذوة حبهما , يقول:

ينبت ظلي في مرآة الحائط

ينبت ظلك في مرآة السقف

نتواجه... نجلس

تقتسم الصمت , وأقداح الشاي البارد

تفصلنا مائدة الفرح الميت

تتحرك فينا أوراق خريف العام الماضي

تتوالى الجمل في القصيدة دون روابط و فكل جملة منفصلة عن الأخرى وهذا يناسب الجو النفسي, فهو يجسد العزلة والانفصام , فكل من المحبين بعيد عن الآخر , رغم المكان الواحد, فبرودة العزلة تلف جو المكان, وامتدت إلى الشاي البارد, فهما يقتسمان الصمت, وأقداح الشاي البارد, ولا يتحرك بداخلهما إلا (أوراق الخريف الماضي), ثم جاءت الجمل بدورها تعكس الجو الثقيل بعدم الترابط, فهي تساعد على الإيحاء.

 

 

 

 

المحاضرة4 :   الإيقاع في الشعر العربي الحديث والمعاصر:

    

     الموسيقى عنصر أساسي من عناصر الشعر , وهي عنصر فارق بين الشعر والنثر, ولا تعد حلية خارجية تضاف إلى القصيدة , وإنما هي وسيلة إيحائية وهذا ما دعا إليه قديما ابن عبد ربه في كنابه (العقد الفريد), لكن لم يهتم لها الشعراء إلا في العصر الحديث, ومع الاتجاه الرمزي الذي عني بالوظيفة الإيحائية للموسيقى , حين تأثروا بالموسيقار الألماني (ريتشارد فاجنر)الذي يرى أن للموسيقى طاقة إيحائية خارقة تعبر عما هو مخفي داخل النفس.

    في العصر الحديث والمعاصر ورث الشاعر المحاولات التجديدية , وكذلك التأثر بالتجديد في موسيقى القصيدة الغربية , واستطاع أن يستخلص (الشعر الحر) للتعبير عن رؤيته الشعرية الحديثة , لأن الشكل الموسيقي القديم يعتمد على التكرار والتوقع (أي يتوقع توالي الحركات والسواكن على نمط معين وهي التفعيلة),

ـــ ويتوقع أيضا أن تتكرر التفعيلة أربع أو ست أو ثماني مرات على امتداد القصيدة .

ـــ ويتوقع التفعيلة الأخيرة (الضرب), إضافة إلى توقع القافية الروي وما قبلها...

ـــ والشاعر العربي الحديث في محاولته لتطوير الشكل الموسيقي للقصيدة العربية لم يتخل عن الشكل الموسيقي الموروث وإنما ظل يستعملها, واعتمد على:

أولا: محاولات التجديد الموسيقي تراث القصيدة العربية ابتداء بالموشح وانتهاء بمحاولات رواد الجيل الأول ( شعراء المهجر, أبولو..).

ثانيا: محاولات التجديد في موسيقى القصيدة الغربية الحديثة , وخصوصا الأدب الرمزي الفرنسي فهم يريدون أن تكون الموسيقى صدى للخلجات الروحية العميقة , وليست قالبا جاهزا تسجن فيه الخلجات . إن الشعر الحر يلتزم بتكرار وحدة الإيقاع وبشكل أكثر مرونة من القافية, وأكثر شيء تحررت منه القصيدة : العدد المحدد للتفاعيل.

 ــ المزج بين الشكلين الحر والموروث:

ظل الشكل الموسيقي الموروث يستخدم جنبا إلى جنب مع الشكل الحر في بناء القصيدة , وقد يمزج الشاعر بين النمطين في القصيدة الواحدة , خاصة القصائد التي يكون فيها حوار وصراع بين صوتين أو بعدين من أبعاد رؤية الشاعر , من ذلك قصيدة (بورسعيد)للسياب , وحوارية العار لسميح القاسم , حيث يقوم على صوت (السلطان), وصوت(السادن), وصوت(العبيد), وصوت (أوزوريس), وصوت الشاعر , وتدور القصة حول الصراع الأبدي بين السلطان المستبد من ناحية وعملائه من ناحية أخرى , وبين القوى المقاومة والصمود من ناحية أخرى , وقد استعمل الشكل الحر في التعبير عن كل الأصوات ما عدا صوت الشاعر حيث جاء بالشكل العمودي الموروث بما فيه من فخامة الإيقاع , ويقصد بذلك إصرار المقاومة على الاستمرار رغم كل التضحيات.

وتبدأ القصيدة ــ بعد افتتاحية قصيرة تقدم بإيجاز شديد المسرح الذي يجري عليه الصراع بين الأصوات المختلفة بصوت السادن العميل وهو يزين لسيده السلطان الاستبداد بالرعية والإغداق على أتباعه والعصف على خصومه:

مولاي .. يمتثل الجميع

الخزي والدمع والدموع

 والعبد عن كرم يبيح السيد المعبود أرضه

ويبيحه إن شاء عرضه

هذي صكوك الذل وقعها القطيع

 وتهافت الخصيان فامنحهم فتات المائدة

...

أمطر على الأتباع ياقوتا , ونيرانا على زمر الفلول الجاحدة

هذا الزمان كما تشاء      رهن شهوتك الفلك

والخصب في كفيك يا تموزنا.... والمجد لك

وعقب صوت السادن مباشرة يأتي صوت العبيد, يردد صوت السادن (المجد لك), ثم يأتي صوت (أوزوريس) هادئا ولكن في صلابة , يعبر عن تطلعات الجماهير:

عبر القرون الدامسات , وعبر طوفان الدماء

عبر المذلة , والخيانة , والشقاء

عبر الكوارث والمخاطر.....

ثم يأتي صوت الشاعر الذي يعبر عن بعد الصمود والإصرار, عالي النبرة , يؤكد عدم الخضوع إلا للحرية :

غير اللواء الحر لا نترسم           وبغير صك جراحنا لا نقسم

ولغير قدس الشعب لسنا ننحني     وبغير وحي الشعب لا نتكلم

فلتشرب الرايات نخب جراحنا        كأسا يفيض على جوانبها الدم

وهكذا يتجلى الإصرار من هذا الإيقاع البارز الحاسم, واختار الصيغة التقليدية الموروثة من بحر الكامل.

ــ التدوير في القصيدة:    

يختلف أسلوب التدوير بين القصيدة التقليدية , وبين القصيدة الحرة, حيث أصبح يدل في الشعر الحر على  ظاهرة اتصال أبيات القصيدة ببعضها البعض , حتى تصبح القصيدة بيتا واحدا , أو مجموعة من الأبيات المفرطة الطول, وصحيح أن  الشعر الحر غير محدود الطول ولكن السطر الذي يزيد طوله عن العادة في شكله الموروث يسمى مدورا, يقول الشيخ جعفر في قصيدة (الإقامة على الأرض):

بمقبرة خلف برلين يرقد طفل من النخل , قيل:

استراح ابن جودة,هل يذكر السرو , منحنيا

فوق قبر ابن جودة, طفلين في النخل يحتطبان

اهدئي عند جرفك أيتها الموجة , الصبية الشاحبون

المهازيل في الريح والبرق ينتظرون التي في وجهها فضة

إن الإفراط في استخدام التدوير في القصيدة الحرة يرهق القارئ الذي يركن في العادة لوجود وقفات موسيقية في نهاية الأبيات يلتقط عندها أنفاسه, ويضعف الإيقاع العام للقصيدة .

وهناك نوع آخر من التدوير , يقول الشاعر:

آه ... من يوقف في رأسي الطواحين ؟

ومن ينزع من قلبي السكاكين؟

ومن يقتل أطفالي المساكين؟

لئلا يصبحوا في الشقق الحمراء خدامين

                                مأبونين

                                مأجورين

هذه السطور كلها من جزء من البيت الأول , والسطر الأول يبدأ بالإيقاع الأساسي للقصيدة وهو بحر الرمل ,على النحو التالي:

آه من يو      قف في رأ       سي الطواحي     ن

فاعــــــــــلاتن/    فعلاتــــــــــــــــن/      فاعلاتــــــــــــــــــن  /    فــ

بينما يتحول السطر الثاني الذي بدأ ببقية التفعيلة (فعلاتن)إلى إيقاع هزجي على النحو التالي :

ومن ينز     ع من قلبي الســ          كاكين

مفاعيل  /    مفاعيلــــــــــــــــــــــــــــــــن /       مفاعيل

وهكذا يتنوع الإيقاع من الرمل إلى الهزج في القصيدة الواحدة .

 

المحاضرة 5:    الصورة  الشعرية في الشعر العربي الحديث

 

     الصورة هي أحد المكونات الأساسية في تشكيل القصيدة العربية قديما وحديثا و فهي تحقق بلاغة الكلام, وقد كانت قديما تشمل التشبيه والاستعارة والكناية والمجاز, ويلجأ إليها الشاعر عندما يريد الشرح والتزيين, (فلا صورة بلا لغة متوقدة بالفن , وإيقاع نابض وبناء محكم وخيال فسيح , ورمز خصيب).

والصورة هي جوهر الشعر تساهم في بناء القصيدة عندما تعبر عن مشاعر الشاعر, وقد أدركت القصيدة المعاصرة أهمية الصورة, وحاجة الشعر إليها بصفة خاصة, فالكلمات في الشعر ليس شرطا أن تكون مجازية, فقد تكون سهلة إلا أن رسمها في السياق يحمل دلالة الخيال, ولم تعد الصورة في الشعر المعاصر وسيلة لتوضيح المعنى وإنما هي بنائية عضوية لها القدرة على توليد التجربة.

لم تعد الصورة مفهوما مقصورا على الجانب البلاغي بل امتدت لإظهار الجوانب الوجدانية ,يقول إحسان عباس(هي تعبير عن نفسية الشاعر , وأنها تشبه  الصور التي تتراءى في الأحلام ..وأن دراسة الصور مجتمعة قد تعين على كشف معنى أعمق من المعنى الظاهر للقصيدة).

إن دراسة الصور مجتمعة تدل على وجود صور جزئية في القصيدة المعاصرة, وقد نلمس كل واحدة منها في سطرين أو ثلاثة أو في مقطع, إلا أنها تتفاعل في مجملها مع جميع عناصر الخطاب الشعري, ومع جميع الصور الأخرى مشكلة صورة كلية متكاملة, هي في حد ذاتها جوهر المضمون.

وتمثيلا لما سبق نورد قصيدة  لمحي الدين فارس بعنوان( ذات مساء )من ديوان (الطين والأظافر) يقول فيها:

ذات مساء عاصف ..

ملفع الآفاق بالغيوم..

والبرق مثل أدمع تفر من محاجر النجوم

والريح ما تزال في أطلالنا تحوم

وتزرع الهموم

واختبأت حتى طيور الغاب في مخابئ الكروم

كالطفل خلف أمه الرءوم

انطلقت بلادنا من قبوها الضرير عملاقة... عملاقة الزئير

يلاحظ في البيت الثالث تشبيه واستعارة (البرق مثل أدمع)و(محاجر النجوم), فمن الناحية البلاغية البرق ليس كالدمع, فليس هناك علاقة مشابهة, فالأول ضوء خاطف, والثانية دموع تنساب من العين, ولكن التشبيه قائم في فرار الدمعة من العين, تصوير لحركة الخروج, أي أنه تصوير للفعل وليس تصويرا للشيء نفسه, والتشبيه لا ينفصل عن الاستعارة في هذا المثال (محاجر النجوم), وجملة محاجر النجوم هي استعارة تقليدية يقصد بها عين النجم, فهي هنا لا تعطي أي جمالية, ولكن حين تتشكل الوحدة الشاملة والصورة الكلية تبرز جماليتها, إن العلاقة بين البرق والنجوم تدركها الحواس إدراكا مباشرا, فالنجوم تتلألأ بالبياض, وعلاقة البياض اللماح بين الرق والنجوم هي حسية أكثر منها طبيعية, فهذه الصورة تبهرنا بذكائها أكثر مما تبهرنا بشاعريتها, فهناك تطابق بين البرق والنجوم والدموع والعيون.

إن السياق يوضح لنا أن المساء كان عاصفا كئيبا بما تلبد فيه من غيوم, والريح كانت تحوم في الأطلال تحمل معها الهموم تزرعها في النفوس, ونجوم السماء كانت حزينة أيضا, فكان البرق دليل حزنها, لأنه أدمعها, فالقصيدة يملؤها الشعور بالحزن والكآبة.

والخيال هو أداة الصورة ومصدرها, لا يستطيع الشاعر الجديد الاستغناء عنه, فهو قوة نفسية وعقلية, وتتشكل الصور بعدة وسائل أولها الخيال, فمساعدته ترى الحياة كما أرادها الشاعر, وثانيها الرمز الذي يعد تفاعلا بين الشيء الظاهر والشيء الخفي النفسي, والذي يحقق للصورة إيحائيتها, يقول إبراهيم ناجي في قصيدة(العودة):

موطن الحسن ثوى فيه السأم      وسرت أنفاسه في جوه

وأناخ الليل فيه وجـــــــــــــــــــــــــــــــــــثم      وجرت أشباحه في بهوه

والبلى أبصرته رأي العيــــــــــــان       ويداه تنسجان العنكبوت

قلت يا ويحك تبدو في مكان        كل شيء فيه حي لا يموت

كل شيء من سرور وحزن         والليالي من بهيج وشجن

وأنا أسمع أقدام الزمـــــــــــــــــــــــــــن       وخطى الوحشة فرق الدرج

لقد جمع الشاعر بين الأشياء المتباعدة عن طريق الخيال الناقد, فجمع بين (السأم) وهو معنى ذهني مجرد, وبين حركة الإقامة الملموسة(ثوى), ثم بينه وبين(الأنفاس) التي هي من خواص الكائنات الحية, فهو يشخص هذا السأم في صورة كائن حي يكاد يلمسه القارئ, ويفعل نحو ذلك ب(الليل) التجريدي, فيقرب بينه وبين حركة الجثوم(خواص الكائنات), وهكذا يجسد كل المعاني والمشاعر والخواطر المجردة في صورة حية مشخصة, ويجعل من البيت المهجور مسرحا عجيبا تجوس في أنحائه كل معاني الوحشة والخراب, فالسأم ثاو يتردد صوت أنفاسه في أجوائه, والليل منيخ جاثم, والأشباح تعبث طليقة في البهو, وكذلك الزمن نكاد نسمع وقع أقدامه الثقيلة في الممرات.

لقد استطاع الشاعر أن يجسد هذه الأحاسيس والمعاني المجردة ويجعلها شاخصة أمام الأبصار , وأن يقوي المفارقة الأليمة بين هذه الحال الكئيبة التي وصل إليها البيت , وبين ما كان عليه قديما حين كان عامرا بالأحياء.

إن هذه الصور لا تقوم على أساس التشابه الحسي الملموس, وإنما تتجاوزه إلى العلاقات الدقيقة الممثلة للوقع النفسي والشعوري للطرفين المتشابهين, فالصور الحسية الخالصة التي شاعت في الشعر ليس لها وزن في ضوء المقاييس الحديثة .

إن الصورة و اللغة والرمز هي عناصر جمالية لا تستغني عنها القصيدة المعاصرة, فالصورة رمز والرمز لا يكتمل بناؤه إلا بالصورة.

والصورة تتشكل بوسائل  فنية منها :

يلجأ الشاعر الحديث إلى مجموعة من الوسائل الفنية لتشكيل صورته الشعرية , من هذه الوسائل:

1 ــ التشخيص:

التشخيص وسيلة فنية قديمة عرفها الشعر العربي والعالمي, وهي تقوم على تشخيص المعاني المجردة, ومظاهر الطبيعة الجامدة في صورة كائنات حية(تحس وتتحرك وتنبض بالحياة )في مثل امرؤ القيس حين جسد الليل, وقد أكثر الشعراء الرومانسيون من هذه الظاهرة وكانت في أدبهم أكثر تنوعا, وأوسع مدى, ولذلك عد خاصية من خصائصهم , وذلك لرهف إحساسهم ورقة مشاعرهم , حيث كان من أهدافهم الهروب إلى الطبيعة , وكثيرا ما كانوا يجعلون الطبيعة تشاركهم عواطفهم الخاصة , ويشخصون مظاهرها المختلفة , وقد شاع التشخيص في الشعر العربي المعاصر عن طريق التأثر بالرومانسية, مثل قصيدة نازك الملائكة :

أين نمضي ؟ إنه يعدو إلينا

راكضا عبر حقول القمح لا يلوي خطاه

باسطا, في لمعة الفجر, ذراعيه إلينا

طافرا, كالريح, نشوان يداه

سوف تلقانا وتطوي رعبنا أنَّى مشينا

*****

إنه يعدو ويعدو

وهو يجتاز بلا صوت قرانا

ماؤه البني يجتاح , ولا يلويه سد

إنه يتبعنا لهفان أن يطوي صبانا

في ذراعيه ويسقينا الحنانا

***** 

لم يزل يتبعنا مبتسما بسمة حب

قدماه الرطبتان

تركت آثارها الحمراء في كل مكان

إنه قد عاث في شرق وغرب

في حنان

إن التشخيص هو العنصر الأساسي في بناء الصورة الشعرية في هذه القصيدة, بل وفي بناء القصيدة بأكملها, حيث شخصت النهر ــ الذي هو ظاهرة من ظواهر الطبيعةــ  في صورة كائن حي , وكانت هذه الصورة الأساسية في القصيدة إطارا عاما تتعانق خلاله مجموعة من الصور الجزئية التشخيصية التي تدعم التشخيص في هذه الصورة الكلية وتقويه, فرأينا النهر( يعدو) ورأيناه (راكضا)و(باسطا) في لمعة الفجر ذراعيه إلى الجماهير المفزوعة المرتاعة, ورأيناه(لهفان أن يطوي) صباها, ورأيناه (مبتسما بسمة حب)ورأينا له(قدمين) و(يدين)و (شفتين)إلى آخر هذه الصورة التشخيصية التي تدعم الصورة الكلية الأساسية.

ــ تراسل الحواس:

هو وسيلة من الوسائل التي اهتم بها الرمزيون , وعن طريقهم انتقلت إلى الآداب العالمية , وتراسل الحواس معناه(وصف مدركات حاسة من الحواس بصفات مدركات حاسة أخرى , فنعطي للأشياء التي تدركها بحاسة السمع صفات الأشياء التي ندركها بحاسة البصر, ونصف الأشياء التي ندركها بحاسة الذوق بصفات الأشياء التي ندركها بحاسة الذوق بصفات الأشياء التي ندركها بحاسة الشم, وهكذا تصبح الأصوات ألوانا والطعوم عطورا...إلخ), ومن الشعراء الذين اعتمدوا على هذه الوسيلة نذكر محمد معطي الهمشري في قصيدة (أحلام النارنجة الذابلة):

هيهات ... لن أنسى بظلك مجلسي        وأنا أراعي الأفق نصف مغمض

خنقت جفـــــــــــــــــــوني ذكريات حلوة         من عطرك القمري والنغم الوضي

فانساب منك على كليل مشاعري           ينبوع لحن في الخيال مفضــض

وهفت عليك الروح من وادي الأسى        لتَعُبَّ من خمر الأريج الأبيض

فالتراسل بين معطيات الحواس في هذه الأبيات شديد الوضوح , ففي البيت الثاني يصف العطر(وهو من مدركات حاسة الشم)بأنه قمري (وهو من صفات البصري), وكذلك النغم(من صفات السمع)بأنه وضيء(حاسة البصر), وفي البيت الثالث يجمع بين ثلاث حواس هي الذوق والسمع والبصر , (فالينبوع)(لحاسة الذوق), و(اللحن) (لحاسة السمع), و(اللون المفضض)(لحاسة البصر), وكذلك البيت الأخير(الخمر) للذوق يضيفها (للأريج)حاسة البصر.

تلتقي العناصر المتباعدة لتوحي بأحاسيس غريبة, وتتجدد من المحسوسات والماديات وتتحول إلى مشاعر وأحاسيس خاصة(ذلك أن اللغة في أصلها رموز اصطلح عليها لتثير في النفس معاني وعواطف خاصة, والألوان والأصوات والعطور تنبعث من مجال وجداني واحد, فنقل صفات بعضها إلى بعض يساعد على نقل الأثر النفسي كما هو أو قريبا مما هو, وبذا تكمل أداة التعبير بنفوذها إلى نقل الأحاسيس الدقيقة).

ــ مزج المتناقضات:

لقد مزج الشاعر العربي بين المتناقضات في كيان واحد في إطار يعانق في إطاره الشيء نقيضه, حيث يقول أديب مظهر في قصيدة (نشيد السكون)التي هي من النماذج المبكرة في شعرنا العربي الحديث التي تأثرت بوسائل الإيحاء في الشعر الرمزي:

أعد على مسمعي نشيد السكون          حلو كَمُرِّ النســــــــــــــــــــــــم الأسود

واستبدل الأنات بالأدمـــــــــــــــــــــــع          واسمع عزيف اليأس في أضلعي

                     واستبقني بالله يا منشدي

نجد الشاعر بالإضافة إلى اعتماده على عناصر الإيحاء وتراسل الحواس , فإنه يعتمد على مزج النقيض في البيت الأول (النشيد)و(السكون), حيث يجعل للسكون نشيدا وتعبيرا بأن للصمت صوته الخاص, وللسكون نشيده الخاص , حيث يراه ببصره , ويتذوق طعمه , ويلمسه بحواسه, وهذا له دور رئيسي في تصوير الحالة النفسية الغريبة.

ــ ويقول محمد إبراهيم أبو سنة في قصيدة (اجلس كي أنتظرك):

أدخل وحدي نصف القمر المظلم

تبلغني في منفاي رسالة

يبعثها الصيف القادم

يتساقط منها ثلج أسود

يمزج الشاعر بين الأشياء المتناقضة, فهو يمزج بين (ضياء القمر)والظلام, ويمزج في البيت الأخير بياض الثلج بالسواد, ويصبح هذا المزج أكثر تعقيدا حين نعرف أن هذا الثلج الأسود يتساقط من رسالة يبعثها الصيف القادم, بما يوحيه الصيف من الدفء والحرارة, وإذن ففي الصورة مجموعة من المتناقضات المتعانقة التي يعتبر (الثلج)هو القاسم المشترك بينها, والقصيدة كلها تدور حول انتظار الشاعر لحبيب يبدو أنه لن يجيء, وانتظاره له لا يزيده إلا إحساسا بالوحشة, ولا يقوده إلا إلى عوالم شديدة الغرابة, هذه الرسالة لا يتساقط منها دفء الصيف وحرارته وإنما(يتساقط منها ثلج أسود).

ــ الصورة بين الحقيقة والمجاز:

ليست العناصر السابقة هي الأدوات الأساسية لتشكيل الصورة الشعرية الحديثة , فمن الممكن أن تكون الصورة واضحة وخالية من أي مجاز, ومع ذلك تكون صورة شعرية بكل المقاييس وإيحائية, وفي الشعر العربي القديم نماذج كثيرة مشحونة بالطاقات الإيحائية ما ليس في كثير من الصور التي تقوم على المجاز المكثف.إن مقياس جودة الصورة هو قدرتها على الإشعاع والإيحائية, من ذلك قول ذي الرمة في التعبير عن الإحساس بالذهول والأسى حين عاد إلى منزل أحبائه فوجده خاليا موحشا:

عشيَّة ما لي حيلة غير أنني           بلقط الحصى والخط في الترب مولع

أخط , وأمحو الخط ثم أعيده           بكفي , والغربان في الدار وقّـــــــــــــــَع

الصورة خالية من الصور المجازية, لكنها مليئة بالإيحاءات الفنية التي تحمل معاني الذهول والأسى, فجلس الشاعر في ساحتها حزينا شاردا يلقط الحصى في ذهول, وهو يمد بيده خطوطا في التراب, ثم يمحو ما خطه, والغربان تسقط حوله في الساحة الموحشة تضاعف من الإحساس بالأسى والذهول, وهي صورة رائعة بكل المقاييس رغم أنها خالية من المجاز.

أما في الشعر العربي المعاصر فهو حافل بمثل هذه الصور التي لا تقوم على المجاز ,ورغم ذلك تزخر بالقيم الإيحائية والطاقات التعبيرية.

فالشاعر صلاح عبد الصبور في قصيدته(زيارة الموتى )يعتمد في الصورة الشعرية على تحريك مجموعة الأفعال والأسماء في دلالتها وعلاقتها مع بعضها, يقول:

زرنا موتانا في يوم العيد

وقرأنا فاتحة القرآن , ولممنا أهداب الذكرى

وبسطناهم في حضن  المقبرة الريفية

وجلسنا, كسرنا خبزا وشجونا

وتساقينا دمعا وأنينا

وتصافحنا

وتواعدنا وذوي قربانا

أن نلقى موتانا

في يوم العيد القادم

نلاحظ في هذه الأبيات غلبة الأفعال الماضية, وهي تعطينا إحساسا بالزمن الماضي, وتحاول إعطاء الإحساس بالتفاوت في ثنائية الوجود الأزلية(الحياة كصيغة حالية للزمن والموت كصيغة ماضية قد توقفت), وحاول الشاعر من خلال الأبيات أن يعطي إيحاء بأن الموت كفعل سكون ماثل وثابت في اللحظة, وهو ماثل أمام وعينا.

 

المحاضرة6:    الرمز والأسطورة في الشعر العربي الحديث والمعاصر

ــ عوامل التجديد في الشعر العربي:

إن التغيير في القصيدة دعت إليه عوامل يتبناها الشاعر المعاصر, فهو يريد أن يكون الشعر هادفا يصل إلى العالمية, ويعود ذلك لعاملين أساسيين هما:

1 ـ العامل الداخلي: هو حرب فلسطين 1948, وما تمخض عنها من قلق نفسي عند جيل الشباب, يضاف إليها نكسة67 التي خيبت آمال الشعوب العربية, وهي هزيمة حضارية أكثر من كونها هزيمة عسكرية, وقد أعطى ذلك دعما قويا للعودة إلى الماضي واستعادة تجاربه ومحاولة صبغها بنوع من الجدة لتكون ملائمة لروح العصر, لذلك فالشاعر المعاصر( يعترف بأن لكل زمن خصوصيته, وأن الفن كالإنسان يعيش في عالم متغير يتحرك وفق تيارات العصر وفكره, فيقتحم عالمه الخاص دون إخلال بالأصول).

2 ــ العامل الخارجي:الاحتكاك بالثقافة الغربية فالشاعر لم تعد مهمته نظم الشعر , وإنما هو عارف ومؤرخ أسطوري وعالم نفس واجتماع حتى يكون الشعر وسيلة لاكتشاف الإنسان والعالم, وكان لنازك الملائكة والسياب اللذين اطلعا على اللغة الانجليزية دور كبير في هذا التغيير , فقد تأثروا بشكل القصيدة الغربية ومضامينها الأسطورية مثل ترجمة كتاب(الغصن الذهبي) لجيمس فريزر وما يحتويه الكتاب من رموز وأساطير, وكذلك تأثر الشعراء بالشاعر (إليوت)وتعرفوا على خصائص شعره وما فيها من دراما وأساطير.

ــ إصدار مجلة (الشعر)التي اهتمت بالشعراء الموهوبين , خاصة الذين  استهوتهم الحضارة الغربية والمحاولات الأولى في شكل القصيدة منها قصائد لنازك الملائكة والسياب ,  وقد تعددت تسميات هذا النوع من الشعر بين (الشعر الحر)لنازك الملائكة , و(الشعر المرسل)لعبد الله الغذامي , و(شعر التفعيلة) لعز الدين الأمين , و(حركة الشعر الحديث) لغالي شكري...

ـــ  الرمز:

 هو شكل من أشكال التعبير يتواصل به الإنسان مع غيره رغبة في الإيجاز وإضفاء المتعة , كما يستخدم للتلميح والإيماء , وليس الرمز إلا وجها مقنعا من وجوه التعبير بالصورة, وهو يرتبط في الشعر بالاستعارة لكنه في الشعر العربي رمز جزئي, وقد بين أنطوان غطاس كرم في كتابه(الرمزية والأدب العربي الحديث)أهداف الرمزية وبين أن الاتجاه نحو العقل الباطن وفلسفة الإيحاء والموسيقى والإبهام والحلم... والتخلص من العنصر النثري والتحرر من الأوزان التقليدية .. وتوسيع المعنى المنشود أو تضييقه تبعا للموقف.

ــ بدايات ظهور الشعر الرمزي :

هو نوع جديد من الشعر ابتدعه الشاعر الفرنسي (موريا) و(ريمبو)ونحى وراء هذا الأخير دعاة السريالية (ما وراء الواقعية), وقد ازدهر هذا الشعر في القرن العشرين في كثير من البلاد الغربية وبعض بلاد الشرق , ومن رواده الأوائل(ملارميه)و(بول فاليري)في فرنسا, وتبعهما (جورج استيفان) في ألمانيا وغيرهم في روسيا وانجلترا.[i]

أما عند العرب:

ــــ  منهم من قصر الرمزية على الترنيم الموسيقي الآسر مثل الصيرفي في مصر, ونزار قباني في سوريا, وصلاح الأسير في لبنان وغيرهم.

ـــ ومنهم من وقف رمزيته على التعبير أو الصورة مثل الشاعر اللبناني (أمين نخلة) و(سعيد عقل).

ـــ ومنهم من بث الرمزية في موضوعه أو تجربته مع الإبقاء على الصياغة المألوفة مثل الشاعر (سليم حيدر)و(إيليا أبو ماضي)و(أبو شادي).

ـــ  وهناك من الشعراء من اتبعوا الطريقة الرمزية أسلوبا وموضوعا ومنهم الشاعر (بشر فارس).

وهذا الاتجاه الشعري الجديد يهمه الجمال , ويهتم بتجارب العقل الباطن و فهو يبحث عن الغموض والإبهام , وأغلب تجارب شعراء الرمزية ذاتية يلفها الغموض , ويجعل الشاعر الموسيقى هدفا من أهدافه وليس وسيلة.

ــ أنواع الرمز :

يتفاوت الرمزيون في أساليبهم فمنهم من يعوِّل على السحر اللفظي, ومنهم من يعوِّل على الترنيم الموسيقي, وهؤلاء الشعراء لا يكتفون بالكلمة المتغيرة أو الصورة الرامزة بل إن موضوعات قصائدهم خفية المقصد , من ذلك قصيدة  (ضجر) للشاعر ميشال بشر, وهي رمزية في موضوعها وجمال موسيقاها , وقد رمز إلى طيف الحبيبة وأوحى إليها دون ذكر لها ,يقول:

جاء :فمن  يخبر الشذا         والطَّل والفَيْء والزَّهَر

كاللون في دمعة الندى        تذرفها مقلة السحر

والضوء في مخدع الدجى         يعبُّ من وجهه النظر

واللحن في أرغن على            توقيعه يرقص الوتر

في كل درب مشى بها            يعلق من طيبه أثر

                      ******

راقب حتى غضا الدجى           وغط في نومه القمر

وانسلَّ أشهى من الأمانيِّ          وأشــــــــــــــجى من الذكر

يوقـــــــــــــــــــــــــــــظ قلبا مُهوَّما            على وساد من الضجر

ويمكن أن نعد تجاوزا بعض قصائد إيليا أبو ماضي من القصائد الرمزية الفلسفية, فقصيدته (الطين)مثلا يدير فيها محاورة بين الغني المتكبر والفقير الوديع, وكذلك التينة الحمقاء)ويرمز بها إلى الرجل الحريص الباخل الذي مآله إلى الانتحار, وغيرها من القصائد في ديوان(الجداول)الرمزية في موضوعها لا في الأسلوب والصور

والألفاظ.

أما الصور والكلمات الرمزية في الشعر الشرقي فقد حفل بها الشعر اللبناني والسوري مثل نزار قباني في ديوانه(قالت لي السمراء)خاصة في قصيدة (وشوشة):

في ثغــــــــــــــــرها ابتهال           يهمس لي : تعالْ

إلى انعتــــــــــــــاق أزرق           حدوده المحال

لا تستحي فالورد في           طريقنا تلال

ما دمت لي: مالي وما         قيل وما يقال

وشوشة كـــــــــــــــــريمة           سخية الظلال

ورغبة مبـــــــــــــــحوحة           أرى لها خيال

على فم..يجـــــوع في           عروقه السؤال

أنا كما وشوشـــــتني            ملقى على الجبال

مخدتي طــــــــــــــــــافية            على دم الزوال

زرعــــــــــــت ألف وردة            فدى انفلات شال

فدى قميص أخضــــــــر           يوزع الغلال

تمدنا قصيدة وشوشة بمجموعة من الصور والكلمات الرمزية , فمثلا قوله(الانعتاق الأزرق)يقصد بها الانطلاق تحت القبة الزرقاء وقت الغروب, و( الوشوشة السخية الظلال)الهمسات الحنون التي تتفيَّأ نفسه ظلالها, وأما قوله(مخدتي طافية على دم الزوال)فقول مبهم, ولعله يقصد به أن مكانه فوق الجيل حيث تطفو أصباغ الشفق, وهي (دم  الزوال), وقوله (قميص أخضر يوزع الغلال)فهو تعبير رمزي بديع يقصد به أن قميص فتاته الأخضر إذا سارت به نثر الغلال, فكأنه يوزع الآمال الخضراء في النفوس المجدبة, وهذه الكلمات والصور الجريئة تفر من التحليل وهي انعكاسات نفسية هفت بخاطره, وهي من الشعر العربي الخالص .

ـ أما الموسيقى العذبة , فكانت عند نزار قباني وحسن كامل الصيرفي خاصة في قصيدته(حياتي):

إذا الفجر حرر مني الجفون           وأيقظ فيَّ القوى الخارقة

وهبَّ نسيم الصباح العليل              يوزع أنفاسه العاطرة

ورنَّت على رقصات الغصون          سواجع كالأنفس الشاعرة

ولاح على قسمات الوجود              تبسُّمُ جنَّاته الزاهرة

صحوت أناجي خيالا جميلا           وفي ناظريَّ رؤى ساحرة

أحاول أن أستميل الوجود              إليَّ وآمل أن آسره

اعتمد الشاعر على الموسيقى في قصيدته وذلك بتوظيف دلالة وإيحائية الحروف , فهو يكثر من حروف الصفير(السين والصاد والزاي)(نسيم, أنفاس, يوزع, رقصات, الغصون, سواجع, الأنفس....)وكذلك حروف المد(نسيم, رقصات, أنفاس, الشاعرة, لاح, قسمات, وجود, الزاهرة...)إضافة إلى حرف الروي الثابت مع الراء قبله وهي ما تسمى بالقافية, وكل هذه العناصر تتآلف مع بعض لتشكل نغما موسيقيا .

يعد الرمز من وسائل التعبير التي التفت إليها الشعراء بتوظيفه وإغنائه خدمة لغاياتهم في بلوغ الإتقان الفني والقدرة على التوصيل وذلك لأن(طبيعة الرمز طبيعة غنية ومثيرة...), وإذا وظف الرمز بشكل جمالي منسجم واتساق فكري دقيق فإنه يسهم في الارتقاء بشعرية القصيدة وعمق دلالتها , وشدة تأثيرها في المتلقي.

ــ وهناك من يقسمها حسب مجلاتها:

إن الرموز متعددة ومتنوعة تتجلى في عدة مجالات أهمها :

أولاً : الرَّمز الدِّيني :

      ينتخب الشَّاعر عدداً من الشخصيات الدينية التي لها أثرها في الحياة الإنسانية ، وأخرى  ترتبط تاريخياً بقضايا ذات علاقة بكيفية التعامل المجتمعي في الحقب الزَّمنية التي عاشت  فيها ، حيث إنَّ حضورها يوفِّر له الدَّعم اللازم عند تنازعه مع الواقع للأسباب ذاتها لتكون رموزاً فاعلة تختصر – دون أن تفقد الكثافة التأثيرية للتَّجربة الشُّعورية – سبل طَرْقِ هذه القضايا والتنويه عنها ونبذها . واتَّخذ – أيضاً – من الأشياء ذات العلاقة ، أو الإيحاء بالمعتقد الدِّيني رموزاً يؤكد بها ، أو من خلالها توجهه العقدي والنَّفسي ، ويرسم صورته التي قد يكون تكونها الأساس خارجاً عن إطار فكره ، إلا أنَّ الرَّمز يجنح بها لتصب في معينه ، حيث إنَّ " غاية الصورة الرمزية ليس فقط أن تجلو إحساس الشاعر أو فكرته ، بل إنها سابقة على الفكر والشعور. ومن ذلك دلالة (المئذنة) على ديانة الإسلام لارتباطها الوثيق بدُوْرِ العبادة (المساجد) ، فهي ليست ذات خصوصية بفكر الشَّاعر وحسب ؛ إنَّما هي سابقة في أفكار المتلقين . ومثال ذلك ما نجده  في قصيدة " الموت فوق المئذنة ": للشَّاعر (علي الفزاني) ، التي يقول فيها :

قلت لكم سرقت بعض النار

أوقدتها في داخلي ، وتلك لعبة الرجال في القرار

أحرقت سور بابل

قاومت جحافل المغول والتتار

تاريخ أمتي بداخلي أحمله معي إلى المدائن البعيدة

مردداً للوطن المسلوب تارة قصيدة

وتارة مرثية وربما ، وربما غرقت في البكاء

لكن أنا أقسمت أن أموت فوق المئذنة

عبر سني الموت المحزنة

سني يوسف العجاف

كانت لنا نهاية المطاف

   يعلن الشَّاعر إصراره على التَّحدي والثَّبات؛ لأنَّه يستمدُّ  الطاقة المُساندة من الماضي الأسطوري " سرقت بعض النار" وهي التي تمكَّنَ بها من أن يهزم في نفسه الاستسلام والقبول بالواقع المؤلم, فوطنه راسخ في أعماقه، يتردد صداه في ذاكرته كلَّ حين بغض النَّظر عن الموقف الذي هو فيه, ولذا فهو يُقسِمُ بالموت على المبدأ والعقيدة وهما ما رَمَزَ لهما بـالرَّمز الدِّيني (المئذنة), ويؤكِّد أن هذه حالة عارضة  كسني يوسف العجاف التي جاءت بعدها أعوام خير أُغيث فيها النَّاس، وما النَّاس هنا إلا الوطن المسلوب. " والرَّمز بما هو نمط .. وعامٌّ  لا يمكنه أن يدخل فعلاً في سيرورة  دلائلية أو في تدال ، أي لا يمكنه أن يدلَّ إلا إذا تجسَّد في نسخةٍ أو مثالٍ أو سمةٍ , وهو ما تجسَّد لنا في طرح الشَّاعر لرمزه (المئذنة) في الإطار الكلِّي للصُّورة الشِّعرية ليحقق دلالته ، ويقيم أود صبره بالتَّبشير بأن ذلك لن يطول ، وسينتهي بانتهاء السنين العجاف ، وبحلول عهد يُنْصَفُ فيه النَّاس ، ويبقى المواطن أمينا على خزائن مستقبله، ويُفضَحُ أمرُ الخونة. 

  ألجأ ثقل التَّجربة الشَّاعر(أمل دنقل)  للبحث عمَّن يحمل عنه أعباءها ، ويكفيه عبء المواجهة المباشرة، وقد وجد في نبي الله (سليمان) الرَّمز المناسب للمهمة ، والوسيلة الأنجع  لإدراك الغاية ؛ لذا صاغ صورته الشِّعرية تأسيساً على قصة هذه الشّخصية الدينية ، وعمق مكانتها الدينية المؤثرة . ذلك في قصيدته " أيلول "؛ حيث يقول :

أيلول الباكي هذا العام

يخلع عنه السجن قلنسوة  الإعدام

تسقط من سترته الزرقاء ... الأرقام !

يمشي في الأسواق : يبشر بنبؤته الدموية

ليلة أن وقف على درجات القصر الحجرية

ليقول لنا : إنَّ سليمان الجالس منكفئا

فوق عصاه

قد مات ! ولكنا نحسبه يغفو حين نراه !!

أوَّاه

  يحب الشَّاعر للمتلقي المعني بالرِّسالة الإبداعية أن يكون مالكاً للجرأة والإقدام اللَّذين قد يخلصانه مما هو فيه ،  ويرفعان عنه العذاب المهين ؛ لأنَّ ما يخشاه لا خشية منه كونه لم يعد يمتلك الفعل ، وهو يتناص – لإثبات هذه الرؤية وتفعيلها – مع النَّص القرآني  ﴿ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾ (3) . إنَّ الشَّاعر لا يُشبِّه الحكام الجاثمين على كرامة الشعوب بالنَّبي (سليمان) ؛ فشتَّان شتَّان بين هؤلاء وذاك ، لكنَّه يشبه حالة موته الخفية بحال موتهم المعلن ؛ إذ إنَّهم مجرَّد دُمىً يحركها الأجنبي ، ويسخرها لخدمة أغراضه ، وهو ما يكرهه الشَّاعر ويدعو لكراهيته ، ويحذِّر من سخرية يوم سيأتي ويكشف هذه الحالة ، لكنْ بعد فوات الأوان ، وهو ما يقود للتحسُّر والتَّوجع ، وإنَّه يؤكِّد ذلك باستخدام مفردة (أوَّاه) الدَّالة على عمق الألم النَّفسي ، كما أنَّ لمكانها في النَّص الشِّعري – خاتمة الصُّورة الشِّعرية.  - داله على بلوغ ذروة الانفعال والسَّخط على الواقع. إنَّ تاريخ هذه القصيدة (سبتمبر) 1967م ، أي : بعد ثلاثة أشهر من النَّكسة ، وموقعها في سلَّم إبداع الشَّاعر يأتي بعد قصيدة (بين يدي زرقاء اليمامة) التي سبقت تاريخ النَّكسة ، والتي تنبأ فيها الشَّاعر بالهزيمة قائلاً :

ويكون عام فيه تحترق السنابل والضروع

ويموت ثدي الأم..

تنهض في الكرى تطهو على نيرانها الطفل الرضيع

  لقد حمل النَّص الأول ، الملحق بالثَّاني نقداً ضمنياً للرئيس جمال عبد النَّاصر الذي كان مالكاً لزمام الزَّعامة والقوة ، لكنَّ الهزيمة التي أخذت (دودة الأرض) دورها أماطت اللثام عن سوء المآل المُحذَّر منه سلفاً، كما حذَّرت زرقاء اليمامة قومها، ولم يبالوا بها؛ فكان ما كان. ويربط الشَّاعر بين النَّصين كما ربط بين الحدثين بالتَّذكير بمصير زرقاء اليمامة في قصيدة (أيلول) بقوله في بداية الجملة التَّالية:

قال : فكممناه ، فقأنا عينيه الذاهلتين

  لقد كره الشَّاعر أن يرى مصير الأمة كما أجبر على رؤيته ، لكنَّ تحذيره الإبداعي لم يجد آذاناً صاغية ، وقلوباً واعية لذلك فقأت الهزيمة شعوره.

ثانياً : الرَّمز التَّاريخي

إن الرموز التاريخية كان حضورها في ذاكرة التَّاريخ لافتاً ومميزاً ، وقد تنوَّعت بين شخصيات سياسية، وأخرى علمية، وغيرها أدبية .. وقد لجأ الشعراء إليها لقيمتها العالية في التراث، ولكي " تكتسب تجربة الشَّاعر المعاصر باستدعاء هذه الشخصيات التراثية غنى وأصالة وشمولاً في الوقت ذاته.

  تشكِّل الشَّخصيات التَّاريخية ذات الأثر الفاعل في التَّاريخ – سلباً أو إيجاباً – أهمية عالية لخيال الشَّاعر المبدع بما تمنحه من دلالات يصعب الوصول إليها لولا وجود إيحاءات تربط بينها وبين مرموزها تجعلها غير غريبة عن زمن القراءة ,ولقد عمد الشَّاعر (أمل دنقل) لإحداها ليقينه أنَّها ستغني تجربته عن التَّصريح المباشر، دون أن تُفْقِدَ ألفاظه ومعانيه مراميها الكامنة خلف القيمة التَّاريخية للشَّخصية ، وفي متن قيمتها الفنِّية للنَّص الشِّعري ؛ إنَّها شخصية (خماروية)*. ففي قصيدة (الحداد يليق بقطر الندى) يستدعيه الشَّاعر لإثبات حالة بلده التي يشكِّل خوفه عليها من الأسر في التَّاريخ هاجساً يسيطر على منطقتي الشُّعور واللاشعور لديه ؛ فهو يقول :

قطر الندى .. يا مصر

 قطر الندى في الأسر

قطر الندى ..

قطر الندى ..

.. كان (خماروية) راقداً على بحيرة الزِّئبق

في نومة القيلولة

فمن تُرى ينقذ هذه الأميرة المغلولة ؟

من يا تُرى ينقذها ؟

من يا تُرى ينقذها ؟

بالسَّيف ..

أو بالحيلة

  رمزٌ آخر يدخل حيز بنية الصُّورة الشِّعرية ، ويسهم في تكثيف بعدها النَّفسي في المتلقي الذي يحتفظ بقيمة تاريخه وما كان فيه من أحداث في ذاكرته ، ويعمِّق باستحضاره كراهية العصرين (الماضي / الحاضر) لتطابقها في الأثر السَّلبي ، وهذا هو سرُّ الاستدعاء ؛ إنَّها (قطر الندى) التي تحمل رمزية قوية تقود مباشرة إلى المرموز المذكور في النَّص (مصر) ، فاستدعاؤها واتخاذها رمزاً للربط بين متباعدين زمنياً ، متقاربين وقائع وأحداثاً ، يشكِّل كشفاً للفارق بين الواقع الحقيقي الذي يحسه العامة ويعيشونه ، وبين الواقع الخيالي للساسة المتفرغين لملذاتهم على حساب أمن رعاياهم وسعادتهم ، وبهذا يتشكِّل الدور الفني للرَّمز ، حيث إنَّ " طبيعة الرَّمز تجمع في وقت واحد بين الحقيقي وغير الحقيقي.

    إنَّ زمن كتابة القصيدة (1969) يشكِّل مدخلاً لفهم مقاصد الشَّاعر ، كما يكشف عمق الأثر النفسي الذي تركته النكسة (الهزيمة) في نفوس الشُّعراء. لقد شكَّلت ظاهرة التِّكرار في هذا المقطع – كما في مجمل النَّص – دالاً على الغليان الذي يستعر أواره في نفس الشَّاعر.

   ومن الشَّخصيات التي استهوت الشُّعراء شخصية (مسرور) ويقف تَكَرُّرُ وجودها في كلِّ العصور وراء هذا الاستهواء ، وبالتَّالي الاستدعاء . يقول (أمل دنقل) في قصيدة " حكاية المدينة الفضية":

قد أتى الصبح فقم

شدَّني السيافُ من أشهى حلم

حاملاً أمر الأميرة

- " أنا يا مسرور معشوق الأميرة

 ليلة واحدةٌ تُقضى بدم  ؟!

يا ترى من كان فينا شهريار ؟!

أنا يا مسرور ..

    إنَّ دلالات ألفاظ المقطع السَّابق لهذا المقطع تفضي إليه" وعلى الجدران لوحات فريدة – لرغيف..وزجاجات من الخمر..وراعٍ وقطيع..." فالرَّابط في المعنى الذي يربط بين (الرَّاعي) وهو الذي يمثِّل الحاكم (وزجاجات من الخمر) الموحية بحياة التَّرف والضياع للحكام، وبين(القطيع) وهم الشَّعب، و(الرَّغيف) الدَّال على فقدان عنصر الحياة الكريمة . وإنَّ صياح القطيع للمطالبة بالرَّغيف يستدعي وجود السيَّاف (مسرور) . سيَّاف (هارون الرَّشيد) المشهود عليه تاريخياً بقطع رقاب كثيرة بضرباته التي لا تخطئ .. لقد أثبت الشَّاعر أن واقعه يجرِّم الحلم الحق الشَّخصي، وفي هذا دلالة على فساد السلطة وجبروت المتسلطين، ووأدهم لحياة النَّاس في مهدها، وهو ما يؤكده بقوله في المقطع الخاتم :

أنا يا مسرور لم أسعد من الدُّنيا بفرحة

أنا لم أبلغ سوى عشرين عامْ

خذ ثيابي .. خذ مراياي المنيرة

    لقد أثبت الشَّاعر عبر موقع رمزه في تاريخ السَّفك والفتك مدى مرارة الواقع ، وشدَّة إيلامه، لذلك فهو ينادي بوجوب أن تختفي صورة مسرور الكريهة من واقعه ؛ لأنَّها ذات أثرٍ مخزٍ في تاريخ أمته وحاضرها ، وهي شاهد إثبات على سوء السُّلطة العربيَّة خاصة – كونها تعنيه في المقام الأقرب- ، والإنسانية عامة كونه ينتمي إليها . لقد سمع الشَّاعر عن امتهان المواطن العربي، وهو اليوم يرى الصُّورة ذاتها التي سمع عنها، ولذلك أستدعى الرَّمز الجامع، والفاضح للواقع المعني به أساساً، ولم يصرِّح علانية بمغزاه، وهذه سمة الشَّاعر المُجيد الذي" لا يعبِّر عن مفاهيم وأشياء بشكل مباشر. لعلمه بأن استنباط المعنى خاصية القارئ، لذلك فهو يستنير بالمفهوم القاضي بأنَّ " القصيدة تقول شيئاً وتعني شيئاً آخر".

ثالثا ـــ الرمز الصوفي:

يعتر التراث الصوفي من أهم المصادر التراثية التي ولج إليها الشاعر المعاصر ,والذي استقى منها نماذج وموضوعات وصور أدبية عبر من خلالها عن أبعاد تجربته فكان ذلك الملجأ والملاذ الذي أعطى للعمل الأدبي بعدا جماليا يبدو فيه الاتجاه إلى الرمز الصوفي أمرا غريبا في عصرنا مثله مثل الاتجاه نحو الأسطورة والخرافة, وهما من الرموز الشائعة في الشعر المعاصر .

وقد سعت الصوفية للدلالة على معانيها الروحية وعوالم النورانية الخاصة إلى استعمال الوصف  والغزل الحسيين والخمرة الحسية, وقد يرجع ذلك إلى عجز الصوفيين في طوال الأزمان عن إيجاد لغة للحب الإلهي تستقل عن لغة الحب الحسي كل الاستقلال, والحب الإلهي لا يغزو القلوب إلا بعد أن تكون قد انطبعت عليها آثار اللغة الحسية, فيمضي الشاعر إلى العالم الروحي ومعه من عالم المادة أدواته وأخيلته التي هي عدته في تصوير عالمه الجديد.

لذلك نجد الصوفي مثلا وهو يتحدث عن الحب الإلهي يبسط عددا من أسماء المحبوبات ــ ظاهريا ــ لا لشيء إلا لإظهار الهيام والعشق للذات العليا, وسبب ذلك قد يكون إظهار حيرته التي لا تفارقه إزاء محبوبه الذي يتفرد بكل أوصاف التميز من خلال لغة محدودة , فأنى للمطلق أن يحيط به المحدود العجز الذي حتى وجوده  لا يستمده من ذاته بل من ذلك  المطلق.

والكتابة الصوفية تجربة للوصول إلى المطلق ولغتها تشهد تحولات رمزية في شعرها ,كما أن الرمز يعد تحولا دلاليا أيضا ,واستخدام الرمز الصوفي والأسطوري يعدان شكلا من أشكال  الاتجاه نحو أعماق أكثر اتساعا والبحث عن معنى أكثر يقينية , على رأي أدونيس , والعودة إلى الكتابة الصوفية نوع من العودة إلى اللاشعور الجمعي إلى ما يتجاوز الفرد من ذاكرة إنسانية .

وترى الصوفية أن التصوف(أخلاق كريمة ظهرت في زمان كريم من رجل كريم مع قوم كرام, إنه استرسال النفس مع الله على ما يريد).

إن ما يمكن ملاحظته هو أن الكرم محور عملية التصوف ابتداء من الأخلاق ومرورا بالزمن والمريد وانتهاء بالجماعة التي يتعامل معها المريد , والرابط في كل ذلك علاقة الإنسان بالله ومدى استرسالها مع الله , ولعل تكثيف كلمة (كريم)هي التي أفرزت مصطلح الكرامة عندهم .

وتعددت آراء الباحثين في أصل كلمة (الصوفية ) فهناك من يرى أنهم من أصل الصفة الذين عرفوا بالتأمل ومحبة الله , وهناك من يرى أنه التبصر في الشؤون الدينية , وطهارة الظاهر والباطن , ومن خلال الآراء يتبين أنها تلتقي في الانقطاع إلى الله مع التقشف والتأمل والحكمة, وهو(اتجاه جديد يعبر العاطفة الدينية في صفائها ونقائها وهو الجاني الروحي الذي يعتمد على منطق الرؤيا والإشراق والمحبة يكشف فيه الإنسان البعد المتعالي ليتحول إلى إنسان كامل , فهو يحاول كشف حكمة الله في الحياة وتمتع القلب والروح بلذة المشاهدة).

وقد وظف الشعر العربي المعاصر عدة رموز صوفية منها:

أ ــ رمز الخمرة:

لقد منح شعراء الصوفية المعجم الخمري دلالات جديدة خرجت بالخمر من دائرته المادية الضيقة إلى دائرة الرمز الصوفي , فأصبح يدل على معاني الحب والفناء , والسكر عند المتصوفة هو غيره السكر المتعارف عليه,فهو انتشاء صوفي بمشاهدة الجمال ومطالعة تجليه في الأعيان , إنه دهشة وانهيار وحيرة , وقد ارتبط السكر عندهم بالشطح , ومن الشعراء الجزائريين الذين وظفوا المصطلح الصوفي , حيث يقول:

يا فارس الحزن ....نار الحرف معشبة

وخمرُها البِكْرُ حُمَّى وجديَ الحاني

سيشرق الغد في ظلماء غربتنا

ويُقبرُ اليأس في أرحام أحزان

وتنتشي مُقلة السمحاء من خُلدي

فالخمرة في هذه المقطوعة معادل موضوعي للتجربة الصوفية التي تهدف للوصول للمطلق والمحبة الإلهية.

ب ــ رمز المرأة:

تعتبر المرأة بشكل عام أحد أهم منابع الإبداع الخالدة , لكن في التجربة الصوفية تحولت المرأة إلى رمز عرفاني , يقول يوسف أوغليسي في قصيدة (تأملات صوفية في عمق عينيك):

عيناك مقبرة للحزن والوجع

في عمق عينيك يفنى الأف والآه

وثم يدفِنُ قيس هم ليلاه

تَلَوَّن البحر في عينيك واضظربا

في بحر عينيك أُنسُ البحرِ أَنسَاه

يتسع الرمز في هذه الأبيات وتتمدد دلالات الصورة المادية , فإذا الجامد حيا والساكن متحركا , والجامد لينا رخوا يتفجر منه الماء رمز الحياة والخصب وتستوقفنا العيون وهي السمة الأنثوية المميزة والعيون هي وسيط جمالي للوصول إلى الجمال المطلق , وفي ذلك دلالة قوية على عدم الارتواء من المرأة بالمفهوم الصوفي.

ــ الرمز الطبيعي:

ثمة ظاهرة طبيعية يتفق حولها الشعر المعاصر, وهي استخدام الرمز الطبيعي بما يحمله من جدة دلالية, لأنه تعبير عن واقع يعيشه الشاعر ووسيلة يهدف إليها لتصوير مشاعره النفسية, كانت الطبيعة ولا زالت مصدر إلهام الشعراء والفنانين ومنبعهم الذي لا يجف, فالشاعر المعاصر اتخذ من المظاهر الطبيعية رموزا تعبر عن مشاعرهم وحالتهم النفسية والتي تختلف من شاعر إلى آخر, وفي مفهومها من قصد إلى آخر.

يشكل الرمز الطبيعي أهم عناصر التصوير الرمزي, ويبرز الشاعر الخاصة تجاه الوجود,  ويعمل على تخصيبها, كما يمكن للشاعر من استبطان التجارب الحياتية, مما يضفي على إبداعه نوعا من الخصوصية والتفرد, والشاعر إذ يستمد رموزه من الطبيعة يخلع عليها عواطفه ويصبغ عليها من ذاته ما يجعلها تنبت إشعاعات وتموجات تضج بالإيحاءات, فتصبح الكلمات الشفافة القريبة المعنى مكثفة ومحملة بالدلالات ولا فرق بين كلمة وأخرى في هذا المجال .

والشاعر لا ينظر إلى الطبيعة على أنها شيء مادي منفصل عنه, وإنما يراها امتدادا لكيانه تتغذى من تجربته, زيادة على ما تضيفه الأبعاد النفسية على الرمز من خصوصية يلعب السياق أيضا دورا أساسيا في إذكاء إيحائيته, وقد وظف محمود درويش رمز الطبيعة في أشعاره , من الرموز نجد:الأرض , التراب, الزيتون, البرتقال, البداية, النهاية, الشعر , الحلم, الزمن, الرمل ,الفراشة.... وتكررت في نصوصه حتى غدت أساسا في صوره ,وتتجدد باستمرار تجدد الشعرية والموقف.

يوظف درويش رمز البحر الذي يوحي بالعظمة والقوة والغموض , يقول في قصيدة(أغنية إلى الريح الشمالية):

يا بحر البدايات

إلى أن نعود

أيها البحر المحاصر

بين إسبانيا وصور

هاهي الأرض تدور

لماذا لا تعود الآن من حيث أتيت

آه من ينقذ هذا البحر

دقت ساعة البحر

تراخى البحر

تعتمد  الصورة على تكرار كلمة (البحر) التي تدل على الشعب الفلسطيني تارة(أيها البحر المحاصر)وللدلالة على الرحيل مرة أخرى في (دقت ساعة البحر), وكأن الرحيل لهذا الشعب قدر لا مفر منه,كما جاء البحر في صيغة منادى لتعميق فكرة الرحيل .

ما وظف الشعراء رمز (المطر) فهو يمد الكائن الحي بالحياة والرزق, ويبعث فيه الأمل والتفاؤل, يوظف ناصر لوحيشي رمز المطر في قوله:

أيها النغم المستدير

يحاصرون الشوق والشوك والعبرات

أرى دمعنا الآن متحدا يتنزل والماء

مطرا قانيا مستطيرا

قطرة... قطرة

قطرات 

ويختلط باللون

يرتبك اللون

يرتبك الأين

ترتعش النسمات

هذا البناء التقابلي للصورتين يجعل النص يتحرك ضمن ثنائية ضدية محورها المطر,الذي يحمل التغيير بل يحل بين ما يكون وماهو كائن وتنمو الصورة وتتطور لتبلغ قمة التعارض بين الموت والحياة.

3 ــ الرمز الأسطوري:

يعد الرمز الأسطوري الأكثر شيوعا في الشعر العربي المعاصر إذ يحيل على دلالات متنوعة, اقتبسها الشاعر من أكثر من نبع, فبعضها من الحضارات اليونانية وبعضها من الحضارات البابلية, وأخرى من التراث العربي القديم, فنجد في شعرنا توظيف عدة شخصيات أسطورية مثل سيزيف وأدونيس وعشتار وتموز والعنقاء, وعنترة وامرؤ القيس, وزرقاء اليمامة ...

إن للأسطورة سلطة عظيمة على عقول الناس ونفوسهم, وهي إجمالا حكاية مقدسة ذات مضمون عميق يدل عن معان ذات صلة بالكون والوجود وحياة الإنسان.

وللأسطورة قيمة ثقافية كبيرة , إذ تعد مصدرا خصبا من مصادر حضارة الشعوب قديما وحديثا وتحليل رؤيتها للكون والمجتمع والإنسان , ومعرفة مواقفها من القضايا الجوهرية التي شغلتها ومازالت تشغلها, والأساطير في واقع أمرها ظواهر ثقافية في أي مجتمع من المجتمعات فهي نتاج خيال بشري, وهي ليست مجرد وهم بل لها ارتباط بالواقع والحقيقة في أغلب الأعم وتتبوأ المنزلة اللائقة بها.

ولقد وجد الشاعر المعاصر في الأسطورة ملاذا وملجأ ومرآة تعكس إلهامه وتصوراته الذاتية وحرارة وجدانه تجاه هذا الواقع العربي الذي كثرت فيه التناقضات, وشاعت فيه الروح الانهزامية, فهذه الأسباب أدت إلى وجود علاقة ترابط بين الشعر المعاصر والأسطورة التي غدت تشكل روح هذا الشعر.

ــ الأسطورة:

هي ظاهرة اجتماعية طبيعية نتجت عن النفس البشرية في صراعها وجدلها, ومحاولة تفهمها للظواهر الكونية , فالإنسان وجد نفسه بين متناقضات بين وعي يدركه ويواجهه بأعضاء جسدية وحسية, وبين لا وعي كان همه الشاغل لما فيه من صراع وفزع بينه وبين ذاته, أين مصيره بعد الموت ؟بتصويره لها جنة وعالما علويا, أم تحت الأرض بتصويره إياه جحيما وعالما سفليا.

والأسطورة لا تكاد تخرج دلالتها عن الأخبار المأثورة عن الماضين , وترتبط بالجانب الديني لأنها تتعلق بالآلهة.

ولو أمعنا النظر في الأساطير لوجدنا أنها حكايات خرافية تعتمد على الخيال في عرض أحداث لا تنطبق مع الواقع الذي نعيشه , ما يجعلها تفكير بدائي سابق للمنطق,لأنها من فعل قوى خارقة تنسب الواقع فيها إلى أمور تخرج عن مألوف العالم الطبيعي .

ومهمة الأسطورة أيام نشأتها ترتكز على تفسير أحداث الحياة وظواهر الطبيعة ونشوء الكون ونظامه , تحت تأليف جماعي يعبر عن أفكار دينية ونفسية واجتماعية وأنثروبولوجية وصراع أزلي بين الخير والشر.

ـــ الفرق بين الأسطورة والرمز:

وظف الشعراء الرمز والأسطورة كثيرا في أشعارهم , فهل الرمز في حد ذاته أسطورة؟

ـــ الرمز الفني : في الشعر ابتداع لشيء لم يكن, تساهم في خلقة قدرات ذهنية أولها الخيال وقدرات نفسية, فيجعل الشاعر من كلمة أو كلمات في سياق لغوي وكأنها قناع يظهر القليل ويخفي الكثير, ويثير في نفس المتلقي نوعا من الفضول للكشف عما وراءه.

ــ أما الرمز الأسطوري: فهو موجود سلفا ويحمل دلالة مسبقة , لكن الشاعر ينتقي منه ما يتوافق وواقعه وحالته فيسقطه عليها فيبدوان وكأنهما شيء واحد.

ـــ إن الأسطورة تتضمن شخصيات خيالية وحيوانات وأشياء غير حية من الطبيعة قد تشترك في معرفتها جميع الحضارات. والرمز يمثل دلالات ومعاني لثقافة وعادات أمة من الأمم تجاوزت الفردية وتقبلها الموجدان الجماعي لتصبح صيغا معرفية تراثية, قد تستوعبه الأمم الأخرى.

إن العلاقة بينهما قوية , فما الأساطير إلا قصصا رمزية تتضمن أبعادا قدسية, لكن الرمز قد لا يكون أسطورة , وهذا يدل على شمولية الرمز وخصوصية الأسطورة.

ــــ الشخصيات الأسطورية التي وظفت كثيرا عند الشعراء المعاصرين:

وجد الشاعر المعاصر في تراثنا العربي والغربي غنى وتنوعا, فأخذ يستمد منه ما يثري به تجربته الشعرية المعاصرة بما تضفيه إليه من شمول وأصالة, ومن الرموز الأسطورية التي وظفها الشعراء كثيرا نجد السندباد وسيزيف وتموز وعشتروت وبرومثيوس ..

وقد يستلهم الشعراء المعاصرون أحيانا الأسطورة القديمة في مجملها, من حيث هي تعبير قديم له مغزى معين كاستلهام أسطورة أديب وأبي الهول أو قصة بنيلوب وأوليس, وهذه العناصر الرمزية التي يستخدمها الشاعر لها بعد نفسي خاص في واقع تجربته الشعورية, ومعظمها مرتبط في الأسطورة أو القصة القديمة بالشخوص والمواقف, والتجربة تتعامل مع هذه الشخوص والمواقف تعاملا شعريا على مستوى الرمز, وتستغل فيها خاصية المغزى أو الهدف من القصة, وتلك هي ميزة الرمز الفني.

1 ــ شخصية السندباد:

لقد وظف أكثر الشعراء العرب المعاصرين شخصية السندباد, وهي شخصية عربية معروفة, فهو تاجر يجوب بسفينته البلدان بحثا عن الطرائف, ويتعرض في رحلاته لمواقف شاقة لا يخرج منها إلا بعد عناء ومغامرة , فهو شخصية عادية وغير عادية في الوقت نفسه, هي عادية على  المستوى الجمعي فهي قصة مغامرة في سبيل الكشف عن المجهول, وغير عادية على المستوى الفردي لأنه لا تتلخص التجربة الإنسانية في فرد واحد, وهذا  التنوع هو ما جعله شخصية رمزية.

لقد استهوت شخصية السندباد الشعراء الجزائريين المعاصرين ووظفوها في تجاربهم وهذا راجع لطبيعة شخصية السندباد المعروفة بالاغتراب الدائم, وحب التجول والمغامرة, والبحث عن الجديد والمثير وهذا ما أثار الشعراء فوجدوا فيها الملاذ الآمن للوصول إلى تحقيق الذات(ولعل أسطورة السندباد رمز الاكتشاف والبحث عن عوالم الامتلاء والخصوبة , قد ألهمت الشعراء بوصفها المعادل الموضوعي لاشراقات رؤيوية رؤيا البعث المنتظر لواقع هش ومتآكل).

لقد تأثر الشاعر الجزائري بالشعراء المشارقة من أمثال السياب والبياتي وصلاح عبد الصبور وغيرهم ...الذين أصبحت هذه ميزة من مميزات أشعارهم , فتجد مثلا الشاعر عبد العالي رزاقي يحول عشقه للجزائر سندبادا دائم الحركة والسفر من أجل العثور على الحبيبة (الجزائر). يقول:

لا ينبغي أن تهتفي باسمي

فقلبي لم يعد يرتاح للماضي

تعبت من الحكايات القديمة

كأن حبك رحلتي الأولى

كنتُ السندباد

أضفى الشاعر الجزائري المعاصر على شخصية السندباد ملامح معاصرة, فأصبح مغامرا عصريا رحلته في بحار المعاناة الروحية والنفسية لاقتناص لحظات الأمل.

ــ أما النص  الأسطوري السندبادي الغائب فيظهر عند الأزهر عطية:

وأبحرت يا أصدقائي

وفي زورقي قد حملت السلام

رفعت الشراع

سرحت الحمام

وسافرت وفي مركبي

أطوف البحار

أجوب القفار

ومازلت في رحلتي سائرا

وما زلت في زورقي تائها

شراعي جميل

وقلبي حزين

من خلال النص لا يظهر اسم السندباد , ولكن يمكن أن نلمسه في معاني الجمل منها(أبحرت, زورقي و رفعت الشراع, أطوف البحار, أجوب القفار..) ولكن نهاية القصة مختلفة عن نهاية قصص السندباد الأصلية, فهو دائما يعود فرحا محملا بالغنائم, لكن شاعرنا أكسبته الرحلة حزنا وانكسارا للقلب, فقصة السندباد واضحة معالمها في القصيدة, ولكن اسم شخصية السندباد غائب لأن الشاعر هو الذي تقمص دوره, وعبر به عن تجربته الحزينة.

ــ شخصية سيزيف:

تأتي أسطورة سيزيف حامل الصخرة رمز المعاناة الأبدية على رأس الأساطير التي تمثلها الشعراء في نصوصهم , ولكل شاعر الخاص لهذه الأسطورة.

يرمز عبد العالي رزاقي بسيزيف إلى واقع الشعوب المضطهدة الخاضعة للقهر والظلم , وهو يتماشى مع تصوره للأسطورة اليونانية :

حكمت آلهة الزيف

أن أحمل صخرة سيزيف

أن أحمل طوعا أو كرها

تأشيرة منفى

يجسد الشاعر في هذه الأبيات مأساة إنسان القرن العشرين الذي يعاني من القهر والاستلاب,إنه مثل سيزيف كلما صعد إلى أعلى تدحرج مع صخرته إلى أسفل , فهو يبحث عن طريقة وعن غده وعن المخرج الذي يعطيه الحق في الحياة وتنفس الحرية.

ويقول أحمد عاشوري في (أزهار البرواق):

ها ..سيزيف

يهزم أشباح الخوف

يرجع منتصرا

يدخل مزهوَّا قصر الملكة

تلبسه إكليل الغار..

يُسمِعُها عذب الأشعار

تُجلِسُهُ فوق الكرسي الحجري..

تحت شجر اللوز

تُعلِمه أن الأشجار ستورق

والزهر..يبرعم والزنبق

والدفء يعود

والحب يعود

تظهر في النص أسطورة سيزيف, لكن الشاعر يحول سيزيف الذي كان يعاني من القيود يتحول إلى بطل يهزم أشباح الخوف, ويعود منتصرا وينعم بالدفء والحب.

ويقول أدونيس:

أقسمت أن أكتب فوق الماء

أقسمت أن أحمل مع سيزيف

صخرته الصماء

...

أقسمت أن أظل مع سيزيف

أخضع للحمى وللشرار

أبحث في المحاجر الضريرة

عن ريشة أخيرة

تكتب للعشب وللخريف

قصيدة الغبار

سيزيف الذي غضبت عليه الآلهة يقسم الشاعر أن يقاسمه العذاب ويلازمه في حرقته وناره, ويتوجه معه في تحريك إرادة نفسه على المواجهة مع أنها مهمة مستحيلة استحالة الكتابة على الماء, ولكنها تعني الخلق الجديد على جميع المستويات حتى يتوافق مع جديد الحاضر والمستقبل .

وقد يخرج السندباد في رحلة طويلة هي رحلة اللاعودة , حيث يقول السياب:

رحل النهار

ها إنه انطفأت ذبالته على أفق توهج دون نار

وجلست تنتظرين عودة سندباد من الأسفار

والبحر يصرخ من ورائك بالعواصف والرعود

فهنا السندباد خرج في سفرة من سفراته طال أمدها وذلك في قوله(رحل النهار), لكن هذه المرة هي رحلة في الضباب المجهول:

هو لن يعود

أوما علمت بأنه أسرته آلهة البحار

في قلعة سوداء في جزر من الدم والمحار

هو لن يعود

رحل النهار

فلترحلي , هو لن يعود

وهنا رمز السندباد ينفتح على رمز(أوليس) و(بنيلوب)زوجته التي ظلت تنقض ما تغزل, والزمن يمضي, لكنها لم تفقد الأمل في عودته, رغم ما تعرضت له من ضيق وإغراء , وقد شاب شعرها , وكانت تحدث نفسها:

(سيعود. لا غرق السفين من المحيط إلى القرار

سيعود .لا .حجزته صارخة العواصف في إسار

يا سندباد أما تعود؟

كاد الشباب يزول . تنطفئ الزنابق في الخدود

فمتى تعود؟

أواه , مد يديك يبن القلب عالمه الجديد

بهما ويحطم عالم الدم والأظافر والسعار

يبني ولو لهنيهة دنياه

آه متى تعود

فهي مازالت تطمع أن يعود السندباد , لكي يبنيا للقلب عالما جديدا غضا وبريئا , وهذا ما صنعه( أوليس) عندما عاد وشد قوسه , فقد حطم الجشع والسعار الذي أحاط بزوجته.

ـــ شخصية برومثيوس:

تظهر صورة التضحية بالنفس من أجل إسعاد الآخرين بارزة في قصيدة عبد الله حمادي(تحزب العشق يا ليلى), فيقول:

وكبرت في الهجر أشكو الخصام

وعانيت من لحظة المنتظر

وأسهبت في الحيف لا أستبين

ضياء الرجاء بأعلى الصور

تكاثر ثقل احتمال الصحاري

على صهوة قد علاها الكِبَر

......

سأقتلع الصبر من كل نفس

تُغالِب ضُر الشقاء بالسهر

وأنتعل النصر في ناظري

لأركب وهج الهوى المعتصر

تبدو الدلالة النصية عديمة الثقة في الحاضر, ساعية إلى تغييره, وذلك بالإصرار على المقاومة وامتطاء الأهوال, بغرض تحقيق ما تصبو إليه البشرية, ويوظف الشاعر النص البرومثيوسي لكنه لم يذكر اسمه مباشرة فهو النص الغائب الحاضر, فإذا اعتبرنا لحظة كتابة النص التاريخية فهو غائب, وإذا أخذنا طموح الشاعر في إعطاء وجه مشرق من وجوه النضال والرفض والتضحية فهو حاضر.

كما وظف الشعراء أساطير أخرى منها(عشتار)البابلية وهي كوكب الزهرة ابنة إله القمر,(سن)ربة الحياة والخصب, تمثل الحركة الجدلية لدورة الإخصاب والجدب لدى معظم الشعوب, وإن اختلفت أسماؤها فهي عند السومريين (إنانا)إلهة الطبيعة والدورة الزراعية, وهي في بابل(ننحز ساج)أم الأرض وفي كنعان(عناة)و(عشتارت)وفي مصر (إزيس)و(توت) و(هاتور)وعند الإغريق(أفروديت)وفي روما(ديانا) و(فينوس) وفي جزيرة العرب(اللات) و(العزى) و(مناة).وكان معبدها الرئيسي في (نينوى) عاصمة الموصل ,ومركز عبادتها (الوركاء)السومرية على ضفة نهر الفرات, وظهرت أول مرة في سومر قبل أكثر من ستة آلاف عام, إما بشخصها المرسوم على الأختام الأسطوانية وبعض المنحوتات, وإما بالرمز الذي يدل عليها في الخط المسماري وهي النجمة الثمانية التي تشير إلى كوكب الزهرة.

وفي النسخة البابلية من الأسطورة أن تموز يموت كل عام وينتقل إلى العالم السفلي, وتبحث عنه خليلته عشتاروت, وتموت عاطفة الحب أثناء غيابها للبحث عنه حتى تصبح الحياة مهددة بالفناء, فيبعث أحد الآلهة رسولا لإنقاذها وتسمح لها آلهة الجحيم (آلاتو)أن تغتسل بماء الحياة وتعود إلى الأرض مع حبيبها تموز, حتى تنبعث الحياة في الطبيعة من جديد بعودتهما, وتتشكل بذلك فصول السنة فموت تموز ونزول عشتار للبحث عنه يمثلان جو الحزن والرتابة في الخريف والشتاء, وفرح عشتار بعودة تموز يمثلان الجو البهيج في الربيع والصيف.

 

المحاضرة : التشكيل البصري في الشعر العربي الحديث والمعاصر

 

لقد فتحت قصيدة التفعيلة آفاقا جديدة للشعر العربي خاصة وأن(الكتابة التحريرية للقصيدة الشعرية, قد حركت الكلمات المسموعة من عالم الصوت المجرد إلى عالم الرؤية البصرية المجسمة أو المجردة, ومن ثم بدأ القراء التعود على التقاط أحاسيسهم عبر التحرير الشكلي للنص مع كيفية القراءة بالإضافة إلى المضمون).

واحتل التشكيل البصري في الشعر العربي الحديث مكانة بارزة خصوصا في الشعر الحر, الذي أعطى للشاعر الحرية المطلقة في تقنية الكتابة الشعرية, نتيجة تخلصه من قيود الشعر العربي القديم, مما أتاح له استثمار الطاقات الفنية المتاحة في لغة الكتابة الشعرية, الأمر الذي أسهم في  تقديمه وحمل رسالته وخدمة تجربته,وزادت أهمية التشكيل البصري في لغة الشعر الحر تقنيات الكتابة (الشكل الطباعي)التي تطورت عما كانت عليه في السابق, ولما يهيئه الشعر الحر من فرصة لاستغلال شكل النص ومدلولاته المختلفة.

ونعني بالتشكيل البصري الصورة البصرية للنص الشعري المطبوع بشكل معين فوق بياض الورقة , يخرج على معايير شكل الكتابة النثرية الاعتيادية, ويسهم في صنع الجانب الشعري من البعد البصري للنص, فضلا عن تدعيمه للدلالة البصرية وزيادة قدراته التأثيرية في المتلقي.

1 ــ البياض والسواد والشكل المتموج:

يهتم الأديب المعاصر بطريقة الكتابة نوع ترتيبه للأبيات بقدر ما يهتم للكتابة نفسها, لذلك نلاحظ صراعا بين الكتابة والفضاء المحيط بها, وهذا يدل على الصراع القائم  بين نفسية الشاعر والعالم بشكل عام, والعتبات التي تحيط النص من الفضاء الخارجي للنص وما فيها من العلامات والإشارات التي تزيد من المفاهيم والمعاني بحيث يستلذ القارئ بها ويصيب فوائد كثيرة(يعد تشكيل الفراغ المكاني جزءا لا يتجزأ من إيقاع القصيدة التكويني إذ هو مستوى إيقاعي يفصح عن حركة الذات الداخلية , ويتسم بالصراع بين ما تمثله الكتابة (المساحة السوداء المحبرة )وما يمثله الفراغ (مساحة البياض)وهذا الصراع لا يمكن أن يكون إلا انعكاسا مباشرا أو غير مباشر للصراع الداخلي الذي يعانيه الشاعر, فيقيم حوارا بين الكتابة والبياض, مستنطقا الفراغ ومساحته الصامتة بحث تعبر عن نفسية الشاعر المندفعة أو الهادئة على المستوى البصري, ويترك المكان النصي ببياضه الصمت متكلما ويحيل الفراغ إلى كتابة أخرى أساسها المحو الذي يكثف إيقاع كل من المكتوب المثبت والمكتوب الممحي), وفي هذا السياق يمكن أن ندرج المثال التالي لبدر شاكر السياب في قصيدة جيكور:

جيكور ماذا ...؟ أنمشي نحن في الزمن

أم إنه الماشي

ونحن فيه وقوف؟

                 أين أوله

وأين آخره؟

       هل مر أطوله...

ما يلاحظ في هذه الأسطر هو اضطراب في الكتابة وهذا يعكس نفسية الشاعر المضطربة, التي لم تقو على استيعاب هذا الزمن, وقد تجلى ذلك من خلال التساؤلات القلقة المشبعة بالحيرة والمصير المجهول, ولعل تسارع رقعة البياض وانحسار رقعة السواد دلالة على عدم العثور على الإجابة الشافية.

ويقول في موضع آخر:

وجيكور خضراء

مس الأصيل

ذرى النخيل فيها

ودربي إليها كومض البروق,

بدا واختفى ثم عاد الضياء فأذكاه حتى أنار المدينة

وعرَّى يدي من وراء الضماد كأن الجراحات فيها حروق

جيكور من دونها قام سور       

                     وبوابة

                 واحتوتها سكينة

يتضح من شكل الكتابة الشعرية أن الشاعر (السياب) وزع أسطره الشعرية توزيعا طباعيا غير متساو من حيث الطول, أي أن جغرافية الكتابة لهذا المقطع الشعري متفاوتة إضافة إلى عدم إتمام السطر الشعري من حيث المبنى والمعنى والإيقاع , وهو بذلك يستثير حاسة البصر لدى القارئ ويحفزها على التفاعل مع هذه الأشكال, وهذا بالطبع (إنما يخضع لإيقاع التجربة وهندسة الدلالة النفسية في حركتها الخفية والمتوترة المتراجعة إلى لحظة البداية..).

يحاول الشاعر من خلال هذا العمل التجديد في شكل القصيدة والخروج عن المألوف, إضافة إلى الارتقاء باللغة إلى مستوى الجمالية وذلك من خلال إعادة توزيع الكلمات على مساحة الورقة, فيحول الكتابة من نص قابل للاستهلاك إلى نص غير قابل للاستهلاك.

وقد تأخذ تقنية البياض أشكالا أخرى في الكتابة كما هو الحال في قصيدة (المعسكر) لسعدي يوسف التي يقول فيها:

كلما انتصف الليل أوقدت نار المعسكر

في النهار احتطبت

ثم أنصت:

هل هذه خطوات الجنود؟

.........................

.........................

.........................

إن مساحة البياض في النص إضافة إلى الفراغ الذي تركه الشاعر في الثلاثة أسطر الأخيرة, يدفع إلى التساؤل, مثلا ما الذي كان يدور في المعسكر؟ ولماذا توقف الشاعر فجأة عن السرد؟ .

ويفتح الباب أمام تأويلات كثيرة, فقد يكون هذا الصمت فراغا تصويريا غير مرئي لما يحدث من تجاوزات واعتداءات على المساجين عند استنطاقهم وإجبارهم على الاعتراف بالتهم الموجهة إليهم, وقد تكون هذه النقط المتتابعة الصامتة هي خطوات الجنود القادمين نحو المعسكر, والتي أثارت رعب الشاعر فآثر الصمت اتقاء شرهم, وقد يكون هذا الجدل بين الكلام والصمت(السواد والبياض)صراع بين الحرية والقيد, فما باحت به القصيدة من كلام يعادل الحرية والحركة والنشاط نهارا وما صمتت عنه يوازي سلب هذه القيم ودوسها بوقع خطوات الجنود كلما انتصف الليل.

قد يعمد الشاعر المعاصر إلى الحذف قصدا وذلك لإثارة انتباه القارئ وإشراكه في بناء النص الشعري, أي استكمال ما نقص من دواله والسعي نحو تحقيقه دلاليا,لأن الفراغات(تلعب دورا أساسيا في بناء التشكيلات الدلالية لدى القارئ).

2 ــ التنسيق الهندسي للدوال:

قد يلجأ الشاعر المعاصر أحيانا إلى تنسيق الدوال هندسيا مستهدفا إنتاج المعنى على نحو موز لهذا التنسيق, وتصل الفراغات الطباعية في بعض الصفحات إلى مساحات واسعة , ففي قصيدة(أنا آت إلى ظل عينيك)لمحمود درويش تكتب الجمل الشعرية بشكل متناسب مع الشعور النفسي الذي تفصح عنه دلالات الجملة, فيقول:

ثم قالوا: هي الحروب كر ٌّوفرّ

ثم فروا..

        وفروا..

               وفروا..

إن كتابة الجملة الشعرية وتوزيع الأسطر الشعرية بهذا الشكل المائل يوحي بالانزلاق ويضفي على الصورة الشعرية نوعا من حركية المضمون, إذ يستحضر القارئ صورة تكاد تكون مرئية لمشهد الهروب والفرار مرحلة مرحلة حتى يصل إلى أبعد نقطة عن السياق الكتابي للنص.

إن الشاعر المعاصر له مطلق الحرية في اختيار أشكاله الشعرية الخاصة التي تناسب المضمون,ومن هنا كانت العلاقة بين الشكل والمضمون شديدة الترابط, وذلك لأن نسق القصيدة لا يأتي نتيجة نسق سابق الوجود بل ينشأ عن المضمون نفسه,

وهذا تنسيق آخر من قصيدة (بائعة  التذاكر) لعدنان الصائغ يقول فيها:

أكف بلون التراب

                   المواعيد,

             والتبغ,

      أو كاللهاث

أكفٌّ مرابية,

أو منمقة

خشنةٌ,

  لا مبالية,

        أو مشاكسة

 نصف مفتوحة,

             نصفُ جائعةٍ,

                     نصفُ آهٍ...

يرسم الشاعر الفقر والفساد في مجتمعه, كما يرسم الصراع بين الفقراء والفاسدين عن طريق الشكل ,فهو يوافق المعنى الداخلي للنص في: أكف(بلون التراب, ومواعيد, وتبغ, واللهاث), توحي بالحالات التي يتأذى منها الفقير , أما في: أكف( مرابية, منمقة, وخشنة, ولا مبالية, ومشاكسة)فهي توحي بالفساد والمفسدين في المجتمع, وهذا الصراع دائم بين الأغنياء والفقراء, وقد رسمه الشاعر بشكل متموج ليبين للقارئ رفضه للوضع القائم في بلده ومدى عذابه النفسي لما يعيشه شعبه.

3 ــ تفتيت الكلمات (التقطيع الخطي):

ونعني به تقطيع كلمة أو مجموعة كلمات إلى أجزاء متعددة داخل القصيدة, فهو عدول بصري في طريقة الرسم الكتابي العادي للمفردات الشعرية, تعبيرا عن البعد النفسي لدلالة المفردة المقطعة في القصيدة.

وتكشف ظاهرة التقطيع الكتابي في النص الشعري المعاصر عن الشكل الصياغي الجديد , كما أنها ظاهرة إبداعية خارقة للمألوف مثيرة للدهشة , تحاول أن تجسد تأثيرها البصري في المتلقي , وذلك بإبراز قيمتها البصرية في صورة شعرية دالة من حيث المظهر والملامح , ومن حيث المضمون والدلالة.

لقد وظف الشاعر يوسف سعدي الكلمات المنثورة المتكررة ووزعها على بياض الصفحة بطريقة توحي بالتعبير الملحوظ عن الحركة والقيام بدور الفعل الذي يجسد الصورة الشعرية أو الفضاء الداخلي تجسيدا خارجيا حيا, وهو ما يمنح مظهر التكرار المكثف وظيفة أعمق وأبعد من دلالة التأكيد,(فقد يلجأ الشاعر في بعض الأحيان إلى تفكيك وحدة الكلمة الواحدة بحيث تبدو كل جزئية منها ذات كيان مستقل معزول عن نظيره رغم اتصاله السياقي, فيفتح بذلك تشكيلا بصريا موازيا لمضمون التبعثر والتناثر والتشظي), ونلاحظ ذلك في قصيدة(الأعداء) ليوسف سعدي حيث يقول:

                    نعرف أن ع. ر. ا. ق حروف نتهجاها

                            أين نراه؟

                 وكنَّا نحمل آنية السلوى

                 الكلمات التي لا نفقهها

                 وَ ع.ر. ا. ق ابنِ مبارك

          كَانَتْ أَجْسَادُ السَّمَكِ البَالِغِ نَاعِمَةً فَوْقَ حَرَاشِفِنَا

                      ك. و. س. ج

                      ك. و. س. ج

                          كوسجُ

         كوسجُ وكان الكوسجُ مندفعا نحو الماء الأبيض

             طائرة تمرق عبر ع. ر. ا. ق نجهله

يتجلى التفتيت في هذا المقطع الشعري , حيث تحمل حروف كلمة (عراق)دلالة البعثرة والتمزيق لأوصال الوطن منذ بداية النص الذي انفتح مشهده على تهجئة الحروف , ويستمر هذا التشكيل المتقطع حتى نهاية النص الذي يغلق على حروفها يجعلها مبعثرا , في حين ظهرت (كوسج) مبعثرة في البداية ويحمل تفتيتها دلالة صوتية  للتعبير عن تقطع الأنفاس خوفا من الكوسج, ثم تحولت إلى بنية لغوية موحدة ذات دلالة وحشية.

كما استخدم عدنان الصائغ هذا الأسلوب في إنتاجه الشعري :

في الصباح

المطلّ

على مكتب فاخر

سيدلق ما قص من حلمه

في سلال الوظيفة

ثم يشطبني.....

ه.......

ك.......

ذ.......

ا.......

ظهر التفتيت في هذا النص بطريقة عمودية, ودلت الحروف المفردة على حالة الشاعر النفسية المثيرة للدهشة, فكلمة(هكذا) المفتتة تدل على توطيد مقال الشاعر لشطبه فكأنما صرف حروف هذه الكلمة ليسجل في وعي المتلقي حرمانه وحزنه, وهذا الأسلوب طريقة تعبيرية لظهور الانفعالات الذاتية في جسد الصفحة .

4 ــ توظيف الأرقام وعلامات الترقيم:  

هي علامات ورموز متفق عليها توضع في النص المكتوب بهدف تنظيمه وتسهيل قراءته, وتعني لغة(وضع رموز مخصوصة في أثناء الكتابة, لتعيين مواقع الفصل والوقف والابتداء وأنواع النبرات الصوتية والأغراض الكلامية في أثناء القراءة) .

كما أن الظواهر الطباعية والمغامرة الشعرية أدت إلى توظيف الأرقام التي أصبحت  أداة إنتاجية تؤدي مهمتين هما (الفصل والوصل)على صعيد واحد, فقد أكثر الشعراء في العصر الحديث من ترقيم فقراتهم الشعرية لإعطائها حق الإنتاج الشعري أولا, ثم اعتماد التتابع الرقمي أداة ربط بين الفقرات ثانيا.

ومن الشعراء الذين تناولوا علامات الترقيم نذكر عدنان الصائغ في قصيدته(انتظريني تحت نصب الحرية) يقول فيها:

ماذا يحدثُ

في شكل العالم؟!

       ماذا يحدث لو...!

بدلاً من أن تزرعَ في صدري طلقهْ

    تزرع...

        في قلبي....

            وردهْ.....!؟

يعتمد الشاعر على الاستفهام استنكاري حين يطلب الرحمة والمحبة, ويتبعه ب(لو) الامتناعية وعلامة الانفعال لعدم وجود أحد يلبي له ما يطلبه, فالشاعر يريد أن يثبت الخير فيطلب من المخاطب أن يزرع في قلبه وردة بدلا من الحقد والرصاص, ويورد الطلب مفتتا عبر الأسطر حيث يبدأ بـ(تزرع) وبعدها نقاط, ثم(في قلبي) ونقاط ويختمها بـ(وردة) وبعدها علامة تعجب واستفهام ويدل ذلك كله على أن ما يطلبه بعيد المنال وهذا ما يعمق آلامه.

ويقول أمل دنقل في قصيدته (رسوم في بهو عربي):

اللوحة الأولى على الجدار

ليلى (الدمشقية) من شرفة الحمراء ترنو لغروب الشمس

وكرمة أندلسية وفسقية

.....  ......  .......

وطبقات الصمت والغبار

نقش

(مولاي لا غالب إلا الله)

     (2)

اللوحة الأخرى ...بلا إطار:

للمسجد الأقصى ..(وكان قبل أن يحترق الرواق)

وقبة الصخرة ــ والبراق / وايه تآكلت حروفها الصغار

نقش

(مولاي لا غالب إلا .....النار)

        (3)

اللوحة الدامية الخطوط الواهية الخيوط:

لعاشق محترق الأجفان / كان اسمه (سرحان)

يمسك بندقية على شفا السقوط

نقش

(بيني وبين الناس تلك (الشعرة )/لكن من يقبض فوق الثورة يقبض فوق الجمرة)

    (4)

اللوحة الأخيرة :

خريطة مبتورة الأجزاء/ كان اسمها سيناء

ولطخة سوداء تملأ كل الصورة

نقش

(الناس سواسية ــ في الذل ــ كأسنان المشط ينكسرون كأسنان المشط/ في لحية شيخ النفط)

تبدو القصيدة على شكل لقطات من هنا وهناك, تجمع بين الماضي والحاضر, فاللوحة الأولى تقع تحت الرقم (1)نشاهد فيها ليلى الدمشقية (سليلة عبد الرحمان الداخل)تنظر إلى غروب الشمس, وفسقية وبساتين الكروم ويحدث انقطاع بالفاصل الطباعي عن طريق النقط ويأتي بعده(وطبقات الصمت والغبار), واللوحة هنا باهتة الألوان, مغبرة الأركان , ذلك أن طبقات الشمس والغبار هي التي تطغى على ألوان المجد,ويأتي النقش في أسفل اللوحة(مولاي لا غالب إلا الله)ليدل على أن ذلك كان شعارا لدولة بني الأحمر آخر ملوك الأندلس , وهذا الشعار سيتم إحضاره في باقي المشاهد لتفجير دلالته المتراكمة.

ثم تنتقل الصورة من الماضي إلى الحاضر في اللوحة رقم (2) حيث تصور فداحة الحاضر , ومما نتابعه أن هذه اللوحة بلا إطارــ  وذلك دليل الإهمال ــ ويظهر فيها المسجد الأقصى وقد احترق رواقه , كما تظهر القبة والبراق, وآية( سبحان الذي أسرى)التي تآكلت حروفها, وتنقطع الكاميرا الشعرية على المشهد لتنزل على النقش,

الذي تغيرت دلالته من (لا غالب إلا الله)إلى(لا غالب إلا ...النار) حيث تزحزح عن مكانه في القلوب , فسادت المادية على حساب الروحية.

ورغم التباعد الظاهري بين اللوحتين الأولى والثانية إلا أنهما تشتركان في حالة الضعف والانهيار الذي آلت إليه الأمة العربية .

اللوحة الثالثة تحمل مشهدا دمويا لعاشق اسمه(سرحان), حمل البندقية وحيدا و''كان ذلك قبل الانتفاضة, قبل انتظام الشعب الفلسطيني في ثورة الحجارة التاريخية, فكانت لوحة مقاومته الفردية المشتتة دامية وواهية, يتسلح ويترنح ويستعين بالسياسة التي لا تجدي فتيلا دون القوة, والنقش الذي كان ينبثق من ضميره أخذ يتمثل في نموذج المراوغة الشهير في شعر معاوية, لكنه نقش باهت وضعيف حتى في تركيبه اللغوي, فلا معنى لهذه(الفوق)التي تعتلي الثورة والجمرة''.

وتأتي اللوحة الأخيرة رقم (4)لتكمل مشهد المأساة العربية, وهو مشهد مظلم غائب الملامح , فالخريطة مبتورة بسيناء, والقتامة تملأ كل المشهد, وتنتقل الكاميرا الراصدة بعد ذلك  لنفاجأ بالنقش المنقطع عن اللوحة, فالناس سواسية في الذل, ولماذا ربط ذلك بلحية شيخ النفط ؟, ولعل ذلك يعود إلى أن سبب ذل الشعوب العربية هو من ضياع الأموال والثروات على أيدي مشايخ النفط, الذين بددوا ثروات الشعوب العربية  على نزواتهم وشهواتهم, فأدى ذلك إلى وجود شرائح كبيرة من الشعوب العربية فقيرة ومذلولة.

وفي الشاهد الشعر أدت الأرقام مهنتي الفصل الظاهري السطحي والوصل على صعيد المعنى.

كما وظف الشعراء علامات الترقيم منها الفاصلة والنقطة .. يقول خليل الحاوي في مقطع شعري بعنوان(المجوس في أوروبا):

ودخلنا مثل من يدخل

في ليل المقابر,

أوقدت نارا, وأجسام تلوت,

رقصة النار على ألحان ساحر,

فاستحالت عتمات السقف

بلَّورا, ثريات, وزرقة

لقد وضع الشاعر الفاصلة في مكانها المناسب, إذ يمكن للقارئ من خلال هذه التقنية أن يأخذ نفسا للاستراحة, والفاصلة بهذه الطريقة توحي للقارئ ــ في الوهلة الأولى ــ أن هناك تقسيما لأجزاء الكلام غير مكتمل دلاليا, وهذا ما يدفعه لمواصلة القراءة, لأن هذه الجمل موصولة ببعضها البعض, واستطاع الشاعر من خلال توظيف الفاصلة أن يسجل علامة من علامات الأداء الشفوي التي تستدعي قطع النفس عند هذه الفاصلة, وهو ما يوازي قطع القراءة عند قراءة المكتوب.

 

المحاضرة رقم:   النزعة الدرامية في الشعر العربي الحديث والمعاصر

تتجه القصيدة العربية الحديثة نحو الدرامية, سواء في مضمونها النفسي والشعوري والفكري أو في بنائها الفني, والدراما المقصودة هنا ليست بالمعنى المسرحي, وإنما بالمعنى العام, وقد فسرها عز الدين إسماعيل بأنها(تعني ببساطة وإيجاز الصراع في أي شكل من أشكاله) وتعبر بذلك عن حركة الحياة وطبيعتها, فالقصيدة المعاصرة إذن لم تعد تتكئ على التقاليد الشعرية الموروثة, وإنما انطلقت إلى الفنون الأخرى تستعير من أدواتها وتكنيكاتها الفنية ما يساعد على تجسيد الرؤية الشعرية الحديثة بما فيها من تركيب وتعقيد .

واحتل الشعر الدرامي مكانة متميزة بين الأجناس الشعرية الأخرى, حيث تطور منذ زمن طويل لاعتماده على التراجيديا, فيمثل التاريخ والطبيعة والنفس فهو يجمع بين العالمين الظاهر والباطن, والمسرح أقوى الوسائل لتعزيز مكانة العقل الإنساني, وتنوير الأمة بأسرها, فهو معمل للفكر, وملقن للضمير, وشارح للسلوك الإنساني, ومعبد لرقي الإنسان.

ومن أبرز سمات التفكير الدرامي أنه تفكير موضوعي, حتى عندما يكون المعبر عنه موقفا أو شعورا ذاتيا صرفا, وإلى جانب خاصيتي الحركة والموضوعية اللتين تميزان التفكير الدرامي, هناك خاصية أساسية لهذا التفكير هي خاصية التجسيد, لأن الدراما لا تتمثل في المعنى أو المغزى وإنما تتجسد الأفكار في محسوسات تتجلى فيها الحركة.

لقد أخذ الشعر العربي يتطور في القرن العشرين تطورا ملحوظا نحو المنهج الدرامي, ليس المقصود من ذلك كتابة الأعمال الدرامية الشعرية  كالمسرحيات وإنما يقصد تطور القصيدة العربية من الغنائية الصرف إلى الغنائية الفكرية التي تتمثل في القصيدة الدرامية, التي تعكس لنا مجموعة من الأصوات ووجهات النظر, وتصور الحبكة والصراع, وذلك من خلال توظيف أساليب مختلفة ومتنوعة, أبرزها: توظيف العناصر القصصية(الشخصيات والزمان والمكان والأحداث والراوي), والحوار الداخلي والخارجي, وتنوع الأصوات والضمائر والأفعال, من هنا نجد القصيدة الحديثة تنأى عن الطابع الغنائي القائم على تصوير مشاعر ذاتية أحادية, وتقترب في المقابل من الطابع الدرامي القائم على تصوير صراع بين اتجاهات متصارعة, بحيث يكشف لنا هذا الصراع عن طبيعة الحياة المركبة والمنطوية على كثير من التناقضات.

ـــ الحوار الخارجي:

   الحوار هو حديث يدور بين شخصين أو أكثر في العمل الدرامي, وتفرضه طبيعة الموقف والحدث, وهو يصور صراعا بين إرادتين أو أكثر تعكس مواقف الأشخاص من الإنسان والطبيعة والكون, بما يمكن أن تمثله من أفعال وردود أفعال يتولد فيها الشيء من نقيضه داخل الحركة الدرامية.

والحوار شكل من أشكال البناء الشعري تخرج به القصيدة من غنائيتها الذاتية, وفق ما يقتضيه موضوع التجربة الوجدانية لإغناء التجربة وإبراز جوانب الصراع الحياتي في شتى المجالات من أجل (تجسيد حركة الواقع الإنساني المادي والذهني تجسيدا حيا).

لقد استخدم سميح القاسم هذا الجانب الدرامي في تنويعاته الشعرية المختلفة, للإفادة من الطاقات التعبيرية التي يمنحها هذا البناء للتجربة الشعرية, ويزيدها ثراء دلاليا, وكثافة تعبيرية شديدة, حيث يكون الحوار مكثفا(فالكلمة في القصيدة من الممكن أن تعادل صفحات في القصة لذلك يلجأ الشاعر في قصيدته إلى التلخيص والتكثيف في نفس الوقت بحيث تكون لكل لفظة دلالتها) و بحيث تختزن الكلمات المعاني وتختزن المدلولات الكبيرة في عدد قليل من الدوال التعبيرية.يقول في قصيدة (غرفة التحقيق):

ــ اسمك؟

   ــ أيهم تريد؟

الأول, الثالث, أم هذا الذي يحمله

باسبورتي الجديد؟

ـــ عمرك؟

     ــ موتان ربيعيان

وليلة تضمر لي أخرى.

أو النهار

ــــ مهنتك الأولى؟

ـــ مغن يافع . وملح

يسقط فوق جرح

ــ مهنتك اليوم؟

ــ قتيل ساخط منجَّم قتيل

نار مغن مرهق

وقاتل جميل

ـــ هوايتك؟

ـــ الموت بين الضحك والبكاء

ــ رغبتك الأخيرة ؟

ــ أن تعرفوا اسمي كاملا

وواحدا. وواضحا

وربما يكون من رغبتي الأخيرة

أن تطلقوا سراحي

يتجسد الحوار في النص فالصوتان في القصيدة يجليان طبيعة كل من المتحدث فيهما, بحيث تبرز بشكل تلقائي شخصية التحدي لدى الشاعر المصمم كنموذج فلسطيني على الاستهانة بجلاديه, مما يتناسب مع موقف الشاعر الثوري , فشخصية المحقق هنا تبرز الجانب الروتيني التمهيدي لعملية تحقيق أشمل وأعنف لم تبرزها القصيدة, فبداية التحقيق تبدأ بمعرفة تفاصيل البطاقة الشخصية للمعتقل, والجو النفسي للشاعر واضح فيه التحدي عند الرد على الأسئلة, فهو له أسماء متعددة, وعمره موتان ربيعيان وليلة النهار ويبقى حيا, وهو مغن يجمع التناقضات بشكل واضح حيث مهنته الغناء وهوايته الضحك بين الموت والحياة, وهو لا يقيم وزنا للحياة البائسة المتناقضة التي يعيشها تحت ظلم الاحتلال.

أما في قصيدة(ثرثرة في الشارع الطويل ) لبلند الحيدري فيكشف الحوار عن أزمة وجودية خانقة تضغط على الإنسان , وتجعل مقومات وجودة نوعا من العبث واللعب بمصائر البشر, فيقول:

أمؤلم أن تلبس الحذاء كل يوم..؟

ــ أجل... أجل, أكره أن أنزعه

أكره أن ألبسه

أكرهه, لولاه ما كانت لنا

غير مسافات الرؤى في النوم

لولاه لم نسأل

ولم نرحل

ولم نكن لغير أمسنا البخيل

تكرهه.....؟!

ـــ أجل ... أجل, أبصقها بلا وجل

لولاه ما كان لنا في الشارع الطويل

الرعب

والضياع

والمدينة القتيل

يبدأ الحوار في النص بين شخصين يضمهما مشهد واحد, فهما يسيران معا في شارع طويل, ويعكس المشهد طبيعة الموقف, فطول الشارع وعدم وجود تفرعات منه وإليه تلمح إلى حالة مزمنة تسيطر على الإنسان ,وتعمق أزماته, ويلجأ الشاعر إلى طريقة خاصة في عرض كل شخصية, فالشخصية الأولى تطرح سؤالا ثم تصمت, ويحرك هذا السؤال مشاعر الآخر فيبادر إلى الإجابة من خلال تقديم الأحداث التي لا ترتبط بالسؤال مباشرة, وإنما ترتبط بما يمكن أن يندرج تحته من قضايا تثير الشعور والانتباه,ويكشف عن صراع غير متكافئ, أي أنها لا تكشف عن صراع بين طرفين, وإنما تكشف عن صراع تمارسه قوة متسلطة فاعلة لا تسمح للآخر بمواجهتها, ومن خلال هذه المفارقة تتعمق الخاصية الدرامية التي تنتقل من الخارج إلى الداخل لتسرد جوهر العلاقة بين الداخل والخارج, فالحذاء هنا رمز لسيرورة الإنسان ومكون أساسي من مكونات وجوده, فهو مرتبط بالقدمين, والقدمان مرتبطان بحركة الشخص ومساراته, والوجود مرتبط بالسؤال والرحيل والخوف .

ــ الحوار الداخلي:

(يلعب المونولوج دورا مهما في الدراما الشعرية , نتعرف من خلاله ملامح الشخصية وأفكارها ومشاعرها الداخلية) فهو يكشف مستبطنات الشعور التي يحاول الشاعر أن يظهرها في قصائده مسقطا إياها على لسان الحال متلبسا في شخص قناع/هاجس , يظهر لنا ما يدور بين شخصه الظاهر وشخص نفسه المكنونة في داخله بحيث تبرز لنا أجوء الصراع بين الشعور واللاشعور بشكل كثيف معبر.

فعندما يريد الشاعر التعبير عن أفكاره وعواطفه بأسلوب فني فإنه يعمد إلى تكثيف الصورة وتركيبها والتحدث إلى الجمهور من خلال قناع وهمي يغير شكله وصوته , فلا يعود ــ بالنسبة للمتلقي ــ الشاعر نفسه بل يتجسد أمامه من خلال شخصية خيالية.

وقد يكون الحوار همسا ذاتيا لا يبرز الحوار مع شخص آخر غير صوت الضمير للإنساني للشاعر وشخصيته الداخلية التي تختفي وراء قناع الذات الجسمانية الخارجية و يميز الشاعر هذه الأصوات أحيانا بالأقواس أو بتغيير حجم الخط وشكله للفت النظر إلى هذا الصوت الداخلي النابع من ثنايا النفس, بحيث يتمكن المتلقي من تمييزه بسهولة, وهذا الصوت المميز يثري دلالة النص ويفتح آفاقه على العديد من إمكانيات التأويل والاستنتاج, ويثير انتباه المتلقي من خلال تغير الأصوات الداخلية في ثنايا القصيدة.

يبرز الحوار الداخلي في قصيدة(اغتيال) لأحمد معطي حجازي فيقول:

من أنا حقا ؟

ترى هل كان عدلا

أنني لم أعطه رد السؤال

لو لم ندخل شريكين معا

هل كان من حقي في هذا النزال

أن أرى وجه غريمي

دون أن أجعله يشهد وجهي؟!

كان جلادا!

وقد جاء بهذا الوجه

لكني دخلت البهو بالوجه الملثم

وهو حقا يستحق الموت!

لكن تمام العدل أن أشهده أني ولي الدم ,

أني الشفرة الأخرى على خنجره الدامي المسمم

ربما كان إذا جاوبته قاوم,

                    أو فرَّ,

                    أو استنجدَ

أو ناشدني معترفا بالذَّنب,

أن أمنحه مغفرتي

لكنّه أومأ لي إيماءة غامضة

ثم مضى محتميا بالموت, محفوفا بأصوات تنادي

وأنا أهوي, وأهوي

يبدأ الشاعر الفقرة بتوجيه سؤال إلى نفسه في حوار داخلي (من أنا حقا؟)والسؤال هنا سؤال استنكاري,وكأن الشاعر ينكر على نفسه هذا الأسلوب أو هذا الفعل (القتل),  فهل من العدل أنه لم يعطه رد السؤال , يعود هنا الصراع مرة أخرى ــ الصراع بين الذات الخارجية والذات الداخلية ـــ أليس من حق القتيل أن يعرف من قاتله؟ فقد كان يجب أن يعرف كل منهما الآخر فاستخدام كلمة (نزال) بدلا من قتال أو اغتيال أراد به الشاعر أن يثبت لنفسه شرف المهمة التي قام بها , فهو يستحق الموت لأنه كان جلادا , ولكنه لم يخْفِ عنه شخصيته كم فعل هو بوجه ملثم , فيحس المناضل بأنه فقد شيئا بداخله , وأنه يوشك على الانهيار والسقوط, وهكذا يستمر الصراع بين المناضل والخائن , وبين المناضل وذاته الداخلية .

ويقول فاروق جويدة في قصيدة(لا تنتظر أحدا فلن يأتي أحد):

لا تنتظر أحدا...

فلن يأتي أحد

لم يبق شيء غير صوت الريح

والسيف الكسيح...

ووجه حلم يرتعد

يتحدث الصوت إلى نفسه بخيبة بادية , كأنه يقول ما عادت الغير والحث على النهوض أمرا مجديا حتى بات الشاعر يطلق الآهة من نفسه وإلى نفسه, ويستعين لذلك  بثلاث من أدوات النفي في شطرين اثنين, مكثفا بذلك شعوره باليأس, والذي ينقله بصورة واضحة إلى القارئ عبر هذه الأدوات (لا , لن,لم), كما يلجا الشاعر في القصيدة ذاتها إلى البناء الدائري في اتصال آخر القصيدة بأولها, وتوضح هذه الاستعانة أن الشاعر يجهر في المفتتح بخيبة النهاية, ويقدم الصدمة للقارئ في مطلع القصيدة, وهو ما يؤكد استسلام الشاعر للحقيقة البائسة دون أن يعد القارئ بأية مفاجآت  قادمة في القصيدة.

كما يبرز الحوار الداخلي في بعض قصائد سميح القاسم, حيث يقول مخاطبا نفسه:

تدخن؟

أين ترى سوف تنفض حزنك

أين ستغفي من الكائنات

رماد سجائرك الراحلة

وليس على الأرض متَّسعٌ

أين ستنفض أوجاعك القاتلة؟

ــ على كوكبي المستميت

وفي نجمتي الآفلة ..

أجل ليس ثمة متسع لرمادي

على هذه الكرة الآهلة...

بلغت بالشاعر حالة الضيق بالمكان والزمان لدرجة جعلت أحزانه ومآسيه أكبر من حجم الكرة الأرضية , لذلك يبرز همسه لذاته مصورا هذا الأرق الذي وصل إليه, والقلق الكبير الذي انتابه فولَّد عنده حيرة قاتلة, جعلته يضخم أوجاعه, وقد أظهر لنا المونولوج الداخلي حالة السأم بشكل عام دون ذكر التفاصيل, فقد بدا الشاعر كثير التدخين ويحتاج إلى مكان ينفض فيه رماد سجائره وأحزانه, وقد أبرز صوته النابع من صدره أن حزنه تضيق دونه مساحة الأرض المعمورة بالناس, وهذا يبين درجة اغترابه النفسي عن واقعه, ومدى الهم الذي يعيش فيه من خلال القهر والظلم الذي تمارسه دولة الاحتلال الصهيوني.  

القناع الدرامي:

هو وسيلة درامية استخدمها الشعراء للتخفيف من حدة الغنائية والمباشرة في القصيدة الغنائية, وهو تقانة جديدة لخلق موقف درامي يضفي على صوت الشاعر نبرة موضوعية من خلال شخصية يستعيرها من التراث أو الواقع, ليتحدث من خلالها على تجربة معاصرة بضمير مفرد المتكلم (أنا) إلى درجة أن القارئ لا يستطيع أن يفصل صوت الشاعر عن صوت هذه الشخصية, ويصبح الصوت النصي مزيجا من تفاعل صوتين تفاعلا عضويا, إلا حين يميل الصوت إلى القرائن النصية لتذكير المتلقي بأن النص يشير إلى تجربة معاصرة, ولذلك يكون القناع وسيطا بين النص والقارئ, وهو وسيط فيه من الماضي بصوت الحاضر, وصوت الحاضر بصوت الماضي, كما يندمج الذاتي بالموضوعي, والموضوعي بالذاتي للتعبير عن تجربة معاصرة وإن كان الصوت النصي يميل إلى هذا الزمن أو ذاك, وإلى تجربة الشاعر أو تجربة الشخصية المستعارة حسب القرائن التي يقدمها كل نص على حدة.

وإذا كانت بنية قصيدة القناع مركبة من صوتين(الشاعر/ الشخصية)في زمنين (الحاضر /الماضي),فإن الصوت النصي يتضمن عناصر وصفات من هذا الصوت وذاك من دون أن يتطابق مع أي منهما بالضرورة تطابقا نهائيا, لأن ذلك يعني إلغاء أحد الصوتين وأحد الزمنين, وهذا يعني إلغاء أحدهما لمصلحة الآخر, وهذا عيب فني قاتل [ii]يلغي الهدف من استخدام القناع الذي يكون أقرب إلى هذا الطرف أو ذاك, فالقرب شيء والتطابق شيء آخر, ولذلك كان القناع وسيلة تناصية أو حيلة بلاغية أو رمزا لتحويل القصيدة من المباشرة إلى اللامباشرة, مع أن الهدف من استخدام هذه الوسيلة لابد من أن يظل واضحا لدى القارئ, وهو الحديث عن تجربة معاصرة يعيشها الشاعر, وهذا يعني أنه لابد من أن يكتشف القارئ بنفسه وبمساعدة القرائن النصية أن المقصود والمقدم هو الحاضر, والقناع ماهو إلا وسيلة إبعاد وإخفاء فنية, ولذلك جنح الشاعر إلى الاستفادة تناصيا من تجربة أو حدث أو موقف أو رؤيا في الماضي اتصف بها صاحب القناع, ليعبدها إلى الأذهان ضمن تجربة جديدة مماثلة أو معادل موضوعي, فتتعدد الأصوات في بنية القصيدة ويبتعد بذلك قليلا عن الصوت الأحادي والمباشرة, ويضفي على عمله الشعري شيئا من الموضوعية والتعدد والاختلاف والغموض الفني, وكلما كان الحدث المستعار من الماضي شائعا في أذهان القراء كلما كان الاتصال بين النص والجمهور سليما, لذلك (غالبا ما يمثل القناع شخصية تاريخية؛ صوفيا مثل الحلاج والغزالي؛ خليفة أو حاكما مثل عمر بن الخطاب وصقر قريش؛ شاعرا مثل أبي نواس والمتنبي وأبي العلاء ؛ نموذجا من النماذج العليا المتكررة في الأساطير والقصص الشعبي مثل برومثيوس وأدونيس وعشتار,أو السندباد), فالقناع من هذه الزاوية استعارة موسعة تتألف من طرفين مشبه ومشبه به, ولكن العلاقة بينهما ليست علاقة استبدال يحل فيها المشبه به محل المشبه فحسب , بل هي علاقة تفاعل بين الطرفين الحاضر في السياق وهو المشبه به , والطرف الغائب الذي لا تكف فاعليته وهو المشبه , وناتج هذه العلاقة معنى جديد , ينفصل عن كلا الطرفين , وينبع من كلا الطرفين على السواء.

ونلاحظ توظيف القناع عند أمل دنقل فهو ينوع المشارب التي يستقي منها شخصياته,السياسية والدينية والفلكلورية والأدبية كتوظيف المسيح عليه السلام للقناع الديني , وسبارتكوس للقناع التاريخي , وعنترة للقناع الفلكلوري /الأسطوري, والمتنبي للقناع الأدبي. يقول في قصيدة (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة):

أيتها العرافة المقدسة..

جئت إليك... مثخنا بالطعنات والدماء

أزحف في معاطف القتلى , فوق الجثث المكدسة

منكسر السيف , مغبر الجبين والأعضاء

أسأل يا زرقاء..

عن فمك الياقوت عن نبوءة العذراء

عن ساعدي المقطوع .. وهو ما يزال ممسكا بالراية المنكسة

عن صور الأطفال في الخوذات ..ملقاة في الصحراء

عن الفم المحشو بالرمال والدماء؟!!

أسأل يا زرقاء..

عن وقفتي العزلاء بين السيف ..والجدار!

عن صرخة المرأة بين السبي والفرار!

تكلمي أيتها النبية المقدسة

تكلمي.. بالله ..باللعنة ..بالشيطان

..تكلمي.. لشدَّ ما أنا مهان

لقد بنى الشاعر قصيدته على حوار مع زرقاء اليمامة , ويستعين فيها بالتعالق النصي مع شخصيات أخرى مثل الملكة زنوبيا, نموذج الجندي المدافع عن وطنه وخاصة عنترة بن شداد ,ولعل صوت الشخصية الأخيرة هو المهيمن على مقاطع القصيدة.

ومما لا يدع للشك أن شخصية عنترة هي شخصية فلكلورية شعبية, وجامعة للمتناقضات, فهو الفارس المغوار والعبد الذليل, والعاشق المعبد والحبيب الفائز, لكن الخطاب الشعري والبنية الكلية للنص هما السبيل الوحيد لكشف الجوانب التي يريد الشاعر التركيز عليها عبر سياقه الشعري , لأن السياق هو الفصل الوحيد في تحديد الدور المحدود.

لقد تداخل صوت الشاعر في بداية القصيدة مع صوت الجندي الذي عانى مصائب الحرب , وعاد يشكو للزرقاء ــ وهي رمز القوى القادرة على الكشف والتنبُّؤ واستشراف المستقبل ــ ثقل العار الذي صار يحمله وهو مثخن بالجراح التي أصابته وأصابت شعبه, ثم تحول هذا الجندي الزاحف إلى العنقاء فوق الجثث المتراكمة إلى عنترة, أو توحد معه ليربط بين الماضي والحاضر في نسيج القصيدة وبنيتها ليؤكد على اسمرار الطبقية البغيضة وجنايتها على حياة الأمة من منظور اجتماعي, ويبوح بأسرار نكسة حزيران والذل الذي لحق بالإنسان العربي من منظور قومي, لهذا توحد مع هذه الشخصية الفلكلورية, وحاول أن يستدعي جزءا من حياة الحرمان التي ذاقها عنترة في أيام العبودية بقبيلته, حيث يقول على لسانه:

قيل لي: «اخرس ..»

فخرست ..وعميت..وائتممت بالخصيان

ظللت في عبيد(عبس)أحرس القطعان

أجتزُّ صوفها..

أردُّ نوقها

أنام في حظائر النسيان

طعاميَ : الكسرة ..والماء.. وبعض التمرات اليابسة

وها أنا في ساعة الطعان

ساعة أن تخاذل الكماة ..والرعاة ..والفرسان

دُعيت للميدان !

أنا الذي ما ذقت لحم الضان

أنا الذي لا حول لي أو شان..

أنا الذي أُقصيت عن مجالس الفتيان

أُدعى إلى الموت ...ولم أُدع إلى المجالسة !!

تكلَّمي أيَّتها النبية المقدسة

تكلمي..تكلمي..

فها أنا على التراب سائل دمي

ما يلاحظ على الأبيات أن الشاعر لم يذكر اسم عنترة صراحة بل يلمح إليه ضمنا حين يقول(عبيد عبس), ويعتمد على المقابلة التصويرية غزيرة الدلالة ليومئ إليه منها قوله:يرعى الإبل, يجتز وبرها, طعامه الكسرة والتمر اليابس, ينام في حظائر النسيان ثم يدعى إلى الميدان...فالشاعر استحضر حكاية عنترة بالإشعاع التصويري دون الاعتماد على السرد التقريري.

إن الزمن الذي نظمت فيه القصيدة (سنة1967)ينبئ على معادل عنترة, وهو المقاتل العربي و(الإنسان العربي)الذي ظل خارج دائرة التأثير في القرار, وعندما نشبت الحرب طُلِب إليه أن يقاتل ويرد الأعداء!لقد أهملوه وعند الحرب تذكروه, فأي نصر يريدون!!, لقد جعل أمل دنقل (عنترة) رمزا للشعب العربي الضعيف والفقير والمنبوذ.

لقد اتخذ الشاعر في هذه القصيدة من القناع وسيلة للتعبير عن تجربة(حرب حزيران)

بصورة رمزية وغير مباشرة, وذلك من خلال اختيار شخصية عنترة الفلكلورية شعبية, وبهذه العملية خفف من حدة الغنائية المباشرة وأضفى على صوته نبرة موضوعية ومسحة من الغموض والإبهام ,وفي نفس الوقت حاول أن يتحدث عن القضايا السياسية والاجتماعية(نكسة حزيران ,وعلاقة المواطن بالسلطة)باستخدام الشخصية المقنعة (عنترة).    

ــــ الحدث:

يعد الحدث من عناصر البناء الدرامي في القصيدة المتكاملة, وهو الحركة الداخلية في العمل الفني, وقد أولى أرسطو الحدث قديما أهمية خاصة, فهو عنده جوهر البناء الدرامي والفعل التام, له بداية ووسط ونهاية, ولا تنشأ وحدة الحدث عن كون موضوعها شخصا واحدا, لأن الشخص الواحد ينجز أفعالا لا تكون فعلا واحدا, ويختلف الشعر عن التاريخ في أنه لا يروي الأحداث التي وقعت, وإنما يروي الأحداث التي يمكن أن تقع, ولكن الحدث أخذ يتراجع أمام الشخصية في الدراما الحديثة, وأصبح في بعض الأعمال الفنية وسيلة للكشف عن خواصها, وكان لمعطيات الشخصية دور في تكون الحدث وتصاعده ونهايته, فإرادة الشخصية وصفاتها وطبائعها توجه الحدث, والحدث عند أرسطو بسيط أو مركب؛ فالحدث البسيط يعتمد حكاية واحدة, ويقوم الحدث المركب على حكاية رئيسية تغذيها حكاية فرعية أو أكثر.

وللصراع علاقة بالحدث, فإذا كان الصراع هو العمود الفقري للعمل الفني فإنه لا وجود للحدث دون الصراع, لأنه الحركة الداخلية التي  تتقارب وتتباعد فيها الإرادتان, لتدفع الحدث إلى تصاعده في لحظات من التوتر الدرامي.

إذن فالعمل الدرامي يتشكل بالحدث والصراع والحركة, وهي أركان يستند بعضها إلى بعض . 

ويختلف رسم الحدث في القصيدة المتكاملة عنه في المسرحية الشعرية , فالشاعر يرسم الحدث بوساطة العناصر الغنائية, والعواطف الموسيقية, والصور الإيقاعية والحركة الدرامية, ويحاول أن يرفع الحدث إلى الشعر أكثر مما يفعل الشاعر المسرحي الذي يسعى إلى المواءمة بين الشعر والمسرح, ولا يعني هذا أن الشاعر يهمل الحدث, ولكنه في القصيدة المتكاملة غير منفصل عن العناصر الغنائية الأخرى, لأنه لا يراد من القصيد التمثيل, وإنما يستفيد الشاعر من العناصر الدرامية لإغناء قصيدته وتكاملها, ولذلك هي تهتم بالحدث من خلال اهتمامها بالطابع الشعري العام.

والحث هو المادة الفعلية لتشكيل الزمن, وهو واحد من العناصر الحيوية التي تشكل مركز البنية السردية ومركزيته, تأتي من جانب توليده للعناصر الأخرى واشتباكه العضوي معها, وهو أيضا المادة الفعلية التي تدور على مسرح المكان والكفيلة بإظهار الشخصيات ونموها وبيان مصائرها, إن مجال الأحداث مجال واسع يشمل (الحكاية) وما تنتجه من وقائع, ويشمل أفعال الشخصيات وصراعها, وسيرها التي يبثها السرد.

مما سبق نستطيع القول إن الحدث أو الفعل الدرامي, هو تحرك أو تطور الحادثة داخل التكوين العام للمسرحية, أو أنه أحد الأحداث التي يحاول الممثل أن يفشيها على خشبة التمثيل, خلال الحوار أو خلال تعبيراته الجسمية, أما في الشعر فإنه مبني على محاكاة المشاعر, والتعبير عنها بالوصف في موقف أو أكثر,لا محاكاة لقطاع كبير للحياة كما هو في المسرح.

يقول الشاعر يوسف أوغليسي في قصيدة (تجليات نبي سقط من الموت سهوا):

كان لي وردتان

وردة طلعت من حنين الشهيد, وماتت..

وأخرى أصيبت بفقر الحنان!

دلني ـــ يا ربيع ـــ على روضتي..

إنني فاقد الوردتين! ..

واقف.. والتضاريس حولي تلوح لي..

بالتباشير تزرعني..

يبين الشاعر في هذا المقطع افتقاده للوردتين, فالوردة الأولى هي وطن الشاعر زمن الاستعمار, التي سقاها الشهيد من دمه, والوردة الثانية هي وطنه زمن الفتنة الكبرى في فترة التسعينات, وقد ساهمت الأفعال الماضية (كان, طلعت, أصيبت, ماتت..) في تفعيل الحدث الدرامي, وكشف عن البوح الشعري الذي غلب عليه طابع الحزن.

ونظم سعدي يوسف قصيدة (ميت في 'بلد سلامة'), حيث يصف فيها حادثة مقتل رجل يدعى عبد الله , ويبدأ الشاعر سعدي القصيدة بالحدث الأخير , وهو موت عبد الله, ثم يصف سكان البلدة الأحياء الذين هم مثل الأموات في هذا البلد:

قَدْ مَاتَ عَبْدُ اللهِ ... وَالأَمْوَاتُ فِي بَلَدِ السَّلَامَة

     يَمْضُونَ كَالأَحْيَاءِ فِي صَمْتِ الدُّمُوع

             وَالنَّاسُ فِي بَلَدِ السَّلَامَة

يَنْسَوْنَ حَتَّى المَوْتَ حِينَ يَرَوْنَ قَرْيَتَهُمْ تَجُوع

       لَكِنْ سَأَرْوِي كَيْفَ عَبْدُ اللهِ مَات

سيطر صوت الراوي على المقطع الأول , والراوي هو الشاعر وهو راو عليم يمسك بيده خيوط الأحداث , وبدأ في سرد قصة عبد الله القتيل من النهاية, من لحظة الموت التي جعلها منطلقا لوصف حياة الناس في بلد السلامة , فالحياة كئيبة , وأهل القرية جياع, ومن الجوع ينسون الموت, ورغم حياتهم القاسية فإن الشاعر سيروي مأساة مقتل عبد الله, ليتحرك إلى الأمام ويضعف في مشهد الموت:

كان الظلام يكفن الضوء الأخير

وتلوح أحداق الفوانيس العتيقة مُطْفَآت

      لا صوت..لا إنسان..

        صمت كالصلاة

       والليل يلتهم الحياة

  من قلب عبد الله وهو يموت في بلد السلامة

ملقى يموت, مهمش الأضلاع, تغمره الدماء

والأرض تشرب, والنجوم

حمراء واسعة . وعبد الله مات

يبدأ الشاعر بوصف زمان جريمة قتل عبد الله ومكانها ,فالظلام يسيطر على كل شيء, لا ضوء ولا صوت, المكان خال من البشر حتى الفوانيس مطفأة والصمت يلف المكان, ووسط كل هذا الصمت والظلام هناك عبد الله مهشمة أضلاعه , وغارق في دمه , والأرض ترتوي من هذه الدماء, وقد اختار الشاعر اللون الأحمر ليتناسب مع واقع الجريمة, وهنا انتهى الشاعر من النقطة التي بدأ منها وهو موت عبد الله , وقد بنى الحدث على نسق دائري يقوم على العودة من النقطة التي بدأ منها , كما وظف الشاعر التكرار في الجملة(مات عبد الله)أكثر من مرة في بداية المقطع ونهايته,وهنا لجأ الشاعر إلى التكرار بهدف التوكيد والإفهام, ويساهم في تفجير إحساس الشاعر بالحزن الثقيل والكآبة على موت عبد الله, بالإضافة إلى أن الهدف منه إحداث جمالية في القصيدة .