لقد عرفت جميع المذاهب الفقهية مسألة الفتاوى في الوقائع والمستجدات واستخدموا في ذلك مصطلحات كثيرة منها: الفتاوى، والأحكام، والحوادث، والوقائع، والقضايا، والعمليات، والأجوبة، وهذا الغالب عند الأحناف والشافعية والحنابلة، في حين تميز المالكية بمصطلح آخر وهو النوازل، غير أن الاختلاف لا يتوقف عند المصطلح، بل للمصطلح دلالاته

   إذ ما يجدر الاشارة إليه هو أن فقه النوازل إنتاج مغاربي فريد ومتميز كما وكيفا، حيث اختُص به أهل الأندلس وبلاد المغرب الاسلامي، وهو بذلك يعتمد على فتاوى الإمام مالك بن أنس رحمه الله باعتباره إمام تلك المنطقة، فمصنفاته وفتاويه تعد المادة المصدرية الأولى لفقه النوازل، بحيث اعتمد فقهاء المغرب والاندلس عموما على موطأ الامام مالك ورواياته ومدونته الفقهية التي ألفها تلاميذه انطلاقا من أقواله وهي المشهورة بالمدونة، ثم بعد ذلك اعتمدوا على المدونات الفقهية للمجتهدين في إطار المذهب الذي ظل ينتج فقهاء مجتهدين إلى أواخر العصر الوسيط، فالإمام مالك عليه رحمة الله خالف غيره من أئمة المشرق وفي مقدمتهم الامام أبو حنيفة، والذين كانوا يفتون في المسائل والوقائع الافتراضية النظرية المجردة قبل وقوعها، في حين رفص الامام ذلك ولم يفت إلا في المسائل الواقعة أو النازلة، لذلك ارتبط مذهبه بما عرف بالنوازل المالكية، ولما كان انتشار مذهب مالك بالمغرب والاندلس كانت النوازل حكرا على أهل المغرب والاندلس دون غيرهم.

   شكلت لنا مجموعة النوازل التي أفتى بها فقهاء في بلاد المغرب والاندلس موروثا فقهيا ضخما جُمع في مدونات علماء المذهب، منذ عهد تلاميذ الامام مالك إلى أواخر العصر الوسيط، وقد تنبه الباحثون في حقل التاريخ إلى أهمية ذلك التراث الضخم في كتابة تاريخ المنطقة بمختلف فصوله، بحيث يشكل مادة مصدرية مهمة لتاريخ الغرب الاسلامي، ونستطيع القول أن توظيف مثل تلك المادة المصدرية يعد نقلة إيجابية في حقل التاريخ الاسلامي يخرجه من النمطية التقليدية التي وضعته فيها الحوليات التاريخية الكلاسيكية والكتابات البلاطية ليضعه في قالب تاريخي جديد يعتمد على رؤية تجديدية مبنية على العلمية والشمولية، لذلك أصبح لفقه النوازل أهمية علمية وأكاديمية كبرى في وقتنا الحاضر، وهو من المواضيع الهامة التي تدرّس في الجامعات الجزائرية وخاصة في أقسام التاريخ، في مرحلة دراسات الماستر المتعلقة بتاريخ الغرب الاسلامي وكذلك في كليات الشريعة والحضارة الاسلامية، وعليه لزم الوقوف على عديد الإشكالات المتعلقة بفقه النوازل وعلاقته بالدراسات التاريخية في بلاد الغرب الاسلامي.

    فما المقصود بمصطلح فقه النوازل؟، وما خصائص التأليف فيه؟، وما هي المجالات التي  يطرحها؟، وأين تكمن قيمة النوازل الفكرية والتاريخية؟، والمهم هنا خاصة لطلبة التاريخ كيف يمكننا توظيف المادة النوازلية المغاربية كمصدر أساسي لكتابة التاريخ الاجتماعي والاقتصادي للغرب الاسلامي؟.

   سوف نعتمد في هذه الدراسة على المنهج التاريخي وسنتخذه سببيلا لتحقيق أهدافها، وطريقا  لأجل حل إشكالاتها، وسنحاول توظيف أدوات المنهج من التحليل والنقد والمقارنة والاستنتاج للوصول إلى المبتغى، كما سنعتمد على الاستنباط الذي يقوم على تعمبم الجزء على الكل ذلك لأنه في بعض الحالات تحتاج إلى استخدام العقل والاستدلال،  كما سنوظف بعض النوازل المغاربية في هذه الدراسة لنستخلص منها مادة تاريخية أولية كمثال توضيحي يستفيد منه الطلبة،

   كما سنعتمد على جملة من المصادر أهمها على الإطلاق المصادر النوازلية وفي مقدمتها ، المعيار للونشريسي أشهر مصدر مغربي في هذا المجال رغم تأخره(القرن 9و10هـ/15و16م)، وكذلك نوازل البرزلي ونوازل ابن الحاج وغيرها، كما سندعم بحثنا بجملة من المراجع أهمها: النوازل الفقهية والمجتمع لمحمد فتحة، ومخطوطة نوازل ابن الحاج وأهمية مادته التاريخية لابراهيم القادري بوتشيش، وفقه النوازل في الغرب الاسلامي لجميل حمداوي، كما نحيل الطلبة إلى مراجع أخرى مهمة تتعلق بذات الموضوع منها: فقه النوازل في سوس لأحمد مختار العبادي، ونظرات في النوازل الفقهية لمحمد حجي.

 

 



[1][1] مجموعة باحثين من مركز التميز البحثي في فقه القضايا المعاصرة، مراحل النظر في النوازل الفقهية، جامعة الامام محمد بن سعود، الاسلامية، السعودية، مركز التميز البحثي في فقه القضايا المعاصرة،1430هـ ص9-10.


منذ وصول حركة الفتح الاسلامي لبلاد المغرب، شهدت المنطقة حدوث حالة من التغير السياسي الذي اتضحت أهم ملامحه في ظهور أنظمة سياسية مرتبطة بواقع ما بعد الفتح، وكانت الساهرة على رعايته وضمان استمراره والمحافظة على مكتسباته.

و قد كانت بلاد المغرب محط العديد من الأحداث السياسية والعسكرية وما رافقها من تحول حضاري كان له انعكاسه على عموم المنطقة التي نجحت أولا في الانخراط في حركة الفتح والتعامل معها بخصوصية مكنتها من أن تكون في نهاية المطاف جزءا منها. ثم ثانيا نجاحها في أن تصبح عامل اسهام في تشكيل المنتج الحضاري الذي تحولت معه الى مركز اشعاع.

وهذا البحث سيكون العمل فيه موزعا بين جزأين سياسي وحضاري.

أستهل في شقه السياسي تتبع أهم ملامح التحول السياسي الذي صارت عليه المجالات المغربية في ظل حركة الفتح الاسلامي وما كان قد اعقبها عبر مجال زمني ممتد امتداد استمرار تفاعل الأحداث السياسية بالمنطقة.

وفي هذا الجانب سأركز بشكل مهم على حركة الفتح باعتبارها نقطة التحول والقاعدة التي انبت عليها المتغيرات المتلاحقة بالمنطقة

بعدها القي نظرة موجزة و سطحية لأهم الكيانات السياسية التي كان لها حضور فاعل بالمنطقة وشكَّلت جزءا من المشهد السياسي بتفاعلاته عبر الزمن.


النشاط الفلاحي في الغرب الاسلامي في العصر الويط